الهادي للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الهادي للعلوم

منتدى التربية و التعليم العام و الجامعي

الإمام عبد الحميد بن باديس 12685210

كتاب في العلوم الطبيعية و تماريننموذجية ( الجز1 ) متوفرة في ولايات الشرقالجزائري

تجدونها في المكتبات التالية :

باتنة : مكتبة فرقي ، مكتبة الحياة ،مكتبة بن فليس **** ورقلة : مكتبة الصحافةو مكتبة بابا حمو *** الوادي : مكتبةالصحوة الإسلامية ، مكتبة دار السلام ، مكتبة الشافعي . *** بسكرة : مكتبة الوفاء و مكتبة خلوط *** خنشلة : مكتبة مهزول *** تبسة : مكتبة كسيري **** سوق اهراس : مكتبة طيبة و مكتبة الواحات *** الطارف : مكتبة جاب الله و مكتبة الأمل *** عنابة : مكتبة الثورة و مكتبة الرجاء **** قالمة : مكتبة الحرمين *** سكيكدة : مكتبة الرجاء و مكتبة حيمر *** جيجل : مكتبة المسجد مغيشيي **** بجاية : مكتبة الإستقامة *** قسنطينة : مكتبة نوميديا *** ميلة : مكتبةبوعروج *** سطيف : مكتبة بيت الحكمة ،والمكتبة الكبيرة في. *** برج بوعريريج : مكتبة الحضارة و مكتبة جيطلي *** المسيلة : مكتبة الأجيال *** الجلفة : مكتبة الفنانين *** الاغواط : مكتبة البيان *** غرداية : مكتبة الرسالة و مكتبة نزهة الألباب


الإمام عبد الحميد بن باديس Zsk2xb11

المواضيع الأخيرة

» امتحان شهادة البكالوريا التجريبي للتعليم الثانوي ثانويتي - محمد الصديق بن يحي والبشير الإبراهيمي باتنة
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالأربعاء مايو 30, 2018 8:53 pm من طرف Nanondouch

» إختبار الثلاثي الثالث مادة العلوم الطبيعية
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالأربعاء مايو 16, 2018 9:05 pm من طرف حاج

» دلیل بناء اختبار مادة علوم الطبیعة والحیاة في امتحان شھادة البكالوریا – أكتوبر 2017
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالخميس نوفمبر 30, 2017 11:58 pm من طرف زغينة الهادي

» ملفات مفتوحة المصدر لجميع مصممين الدعاية والاعلان
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالسبت نوفمبر 25, 2017 1:04 am من طرف زغينة الهادي

» مادة الرياضيات السنة الاولى ثانوي
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالخميس نوفمبر 16, 2017 12:12 am من طرف اسماعيل بوغنامة

» برنامج لصنع توقيت مؤسسة تربوية
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالخميس سبتمبر 28, 2017 11:12 pm من طرف زغينة الهادي

» كل ما يخص الثانية متوسط من مذكرات ووثائق للأساتذة
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالثلاثاء سبتمبر 26, 2017 11:03 am من طرف linda.hammouche

» المنهاج والوثيقة المرافقة له للجيل الثاني في كل المواد لمرحلة التعليم المتوسط
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالثلاثاء سبتمبر 26, 2017 10:56 am من طرف linda.hammouche

» دليل استخدام كتاب الرياضيات الجيل الثاني سنة4
الإمام عبد الحميد بن باديس Emptyالجمعة سبتمبر 22, 2017 1:26 pm من طرف زغينة الهادي

دخول

لقد نسيت كلمة السر

منتدى

يمنع النسخ هنا

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى


    الإمام عبد الحميد بن باديس

    sami
    sami
    عضو نشط
    عضو نشط

    ذكر عدد المساهمات : 1213
    نقاط : 8556
    السٌّمعَة : 131
    تاريخ التسجيل : 23/08/2010
    30102012

    الإمام عبد الحميد بن باديس Empty الإمام عبد الحميد بن باديس

    مُساهمة من طرف sami

    الميلاد والنشأة


    هو
    عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحول بن الحاج علي النوري بن
    محمد بن محمد بن عبد الرحمان بن بركات بن عبد الرحمان بن باديس الصنهاجي.
    ولد بمدينة قسنطينة يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ 4 من
    ديسمبر 1889 م على الساعة الرابعة بعد الظهر، وسجل يوم الخميس 12 ربيع
    الثاني 1307 هـ الموافق لـ 5 ديسمبر 1889 م في سجلات الحالة المدنية التي
    أصبحت منظمة وفي أرقى صورة بالنسبة لذلك العهد كون الفرنسيين أتموا ضبطها
    سنة 1886 م.

    كان عبد الحميد الابن الأكبر لوالديه، فأمه هي : السيدة
    زهيرة بنت محمد بن عبد الجليل بن جلول من أسرة مشهور بقسنطينة لمدة أربعة
    قرون على الأقل، وعائلة "ابن جلول من قبيلة "بني معاف" المشهورة في جبال
    الأوراس، انتقل أحد أفرادها إلى قسنطينة في عهد الأتراك العثمانيين وهناك
    تزوج أميرة تركية هي جدة الأسرة (ابن جلول) ولنسبها العريق تزوجها والده
    محمد بن مصطفى بن باديس (متوفى 1951 م) الذي شغل منصب مندوبا ماليا وعضوا
    في المجلس الأعلى وباش آغا شرفيا، ومستشارا بلديا بمدينة قسنطينة ووشحت
    فرنسا صدره بميدالية Chevalier de la légion la légion d’honneur، وقد احتل
    مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف وكان ذوي الفضل والخلق الحميد ومن حفظة
    القرآن الكريم، ويعود إليه الفضل في إنقاذ سكان منطقة واد الزناتي من
    الإبادة الجماعية سنة 1945 م على إثر حوادث 8 ماي المشهورة، وقد اشتغل
    بالإضافة إلى ذلك بالفلاحة والتجارة، وأثرى فيهما.

    أما اخوته الستة :
    الزبير المدعو المولود، العربي، سليم، عبد المليك، محمود وعبد الحق،
    والأختين نفيسة والبتول، فقد كانوا جميعا يحسنون اللغة الفرنسية باستثناء
    الأختين، وكان أخوه الزبير محاميا وناشرا صحفيا في صحيفة "صدى الأهالي"
    L'Echo Indigéne ما بين 1933 – 1934 م. كما تتلمذ الأستاذ عبد الحق على يد
    أخيه الشيخ عبد الحميد بالجامع الأخضر وحصل على الشهادة الأهلية في شهر
    جوان سنة 1940 م على يد الشيخ مبارك الميلي بعد وفاة الشيخ بن باديس بحوالي
    شهرين.

    ومن أسلاف عبد الحميد المتأخرين جده لأبيه : الشيخ "المكي
    بن باديس" الذي كان قاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي
    اللجنة البلدية، وقد احتل مقاما محترما لدى السكان بعد المساعدات المالية
    التي قدمها لهم خاصة أثناء المجاعة التي حلت بالبلاد فيما بين 1862 – 1868 م
    ودعي إلى الاستشارة في الجزائر وباريس، وقد تقلد وساما من يد "نابليون
    الثالث" (تقلد رئاسة فرنسا من 1848-1852 م وإمبراطور من 1852-1870 م)، وعمه
    "حميدة بن باديس" النائب الشهير عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر
    الذي اشترك مع ثلاثة من زملائه النواب في عام 1891 م في كتابة عريضة
    بأنواع المظالم والاضطهادات التي أصبح يعانيها الشعب الجزائري في أواخر
    القرن التاسع عشر الميلاد من الإدارة الاستعمارية والمستوطنين الأوروبيين
    الذي استحوذوا على الأراضي الخصبة من الجزائريين وتركوهم للفقر والجوع
    وقاموا بتقديمها إلى أحد أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي الذي حضر إلى الجزائر
    من أجل البحث وتقصي الأحوال فيها كي يقدمها بدوره إلى الحكومة الفرنسية
    وأعضاء البرلمان الفرنسي في باريس وذلك بتاريخ 10 أفريل سنة 1891 أي بعد
    ولادة عبد الحميد بن باديس بحوالي ثلاثة سنوات فقط.

    أما من قبلهم من
    الأسلاف الذين تنتمي إليهم الأسرة الباديسية فكان منهم العلماء والأمراء
    والسلاطين، ويكفي أن نشير إلى أنهم ينتمون إلى أسرة عريقة في النسب كما
    يقول مؤلفا كتاب أعيان المغاربة المستشرقان Marthe et Edmond Gouvion
    والمنشور بمطبعة فوناتانا في الجزائر 1920, بأن ابن باديس ينتمي إلى بيت
    عريق في العلم والسؤدد ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى بني باديس
    الذين جدهم الأعلى هو مناد بن مكنس الذي ظهرت علامات شرفه وسيطرته في وسط
    قبيلته في حدود القرن الرابع الهجري, وأصل هذه القبيلة كما يقول المستشرقان
    من ملكانة أو تلكانة وهي فرع من أمجاد القبيلة الصنهاجية العظيمة
    "البربرية" المشهورة في الجزائر والمغرب الإسلامي. ومن رجالات هذه الأسرة
    المشهورين في التاريخ الذين كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يفتخر بهم كثيرا
    "المعز لدين الله بن باديس" (حكم: 406-454 هـ/1016-1062 م) الذي قاوم
    البدعة ودحرها، ونصر السنة وأظهرها، وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا
    للدولة، مؤسس الدولة الصنهاجية وابن الأمير "باديس بن منصور" والى إفريقيا
    والمغرب الأوسط (حكم: 373-386 هـ/984-996 م) سليل الأمير "بلكين بن زيري بن
    مناد المكنى بأبي الفتوح والملقب سيف العزيز بالله الذي تولى الإمارة
    (361-373 هـ/971-984 م) إبان حكم الفاطمين.

    وفي العهد العثماني برزت
    عدة شخصيات من بينها قاضي قسنطينة الشهير أبو العباس حميدة بن باديس (توفى
    سنة 969 هـ/1561 م) قال عنه شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون : "هو من بيتات
    قسنطينة وأشرافها وممن له الريّاسة والقضاء والإمامة بجامع قصبتها،
    وخَلَفُ سلف صالحين علماء حازوا قصب السبق في الدراية والمعرفة والولاية،
    وناهيك بهم من دار صلاح وعلم وعمل". وأبو زكرياء يحيى بن باديس بن الفقيه
    القاضي أو العباس "كان حييا ذا خلق حسن، كثير التواضع، سالم الصدر من نفاق
    أهل عصره، كثير القراءة لدلائل الخيرات ذا تلاوة لكتاب الله".

    وأبو
    الحسن علي بن باديس الذي اشتهر في مجال الأدب الصوفي بقسنطينة إبان القرن
    العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي وهو صاحب القصيدة السينية التي نظمها
    في الشيخ "عبد القادر الجيلاني" مطلعها :

    ألا سر إلى بغداد فهي مني النفس وحدق لهمت عمن ثوى باطن الرمس

    والشيخ
    المفتي بركات بن باديس دفين مسجد سيدي قموش بقسنطينة في الفترة نفسها.
    وأبو عبد الله محمد بن باديس قال عنه الشيخ الفكون : "كان يقرأ معنا على
    الشيخ التواتي (محمد التواتي أصله من المغرب كانت شهرته بقسنطينة وبها
    انتشر علمه، كانت له بالنحو دراية ومعرفة حتى لقب بسيبويه زمانه، وله معرفة
    تامة بعلم القراءات) آخر أمره، وبعد ارتحاله استقل بالقراءة عليّا وهو من
    موثقي البلدة وممن يشار إليه". والشيخ أحمد بن باديس الذي كان إماما
    بقسنطينة أيام "الشيخ عبد الكريم الفكون" خلال القرن الحادي عشر الهجري،
    السابع عشر الميلادي.

    من هذه الأسرة العريقة انحدر عبد الحميد بن
    باديس، وكان والده بارًا به يحبه حبا جما ويعطف عليه ويتوسم النباهة وهو
    الذي سهر على تربيته وتوجيهه التوجيه الذي يتلاءم مع فطرته ومع تطلعات
    العائلة، كما كان الابن من جهته يجل آباه ويقدره و يبره. والحق أن "عبد
    الحميد" يعترف هو نفسه في آخر حياته بفضل والده عليه منذ أن بصر النور وذلك
    في حفل ختم تفسير القرآن سنة 1938 م، أمام حشد كبير من المدعوين ثم نشر في
    مجلة "الشهاب"، فيقول : "إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربّاني تربية
    صالحة ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده،
    وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني
    كلف الحياة... فالأشكرنه بلسانه ولسانكم ما وسعني الشكر. ولأكلُ ما عجزت
    عنه من ذلك للَّه الذي لا يضيع أجر المحسنين».






    الإمام عبد الحميد بن باديس Portra10


    الوسط الثقافي والفكري والدينية الذي تربى وترعرع فيه الشيخ ابن باديس



    أولاً: الحالة الثقافية والفكرية في الجزائر قبل الاحتلال :

    إن
    انتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك
    الفترة، دليل على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت مزدهرة بها.

    وقد
    اشتهرت مدن قسنطينة والجزائر وتلمسان وبلاد ميزاب في الجنوب بكثرة المراكز
    التعليمية، وكان يقوم عليها أساتذة وعلماء مشهود لهم بعلو المكانة ورسوخ
    القدم في العلم والمعرفة، مثل الشيخ (الثميني) في الجنوب، والشيخ
    (الداوودي) في تلسمان، والشيخ (ابن الحفّاف) بالعاصمة، والشيخ (ابن
    الطبّال) بقسنطينة، والشيخ (محمد القشطولي) في بلاد القبائل، وغيرهم كثير
    ممن تفرّغوا للتدريس ونشر العلم.

    وكان من نتائج هذا الانتشار الواسع
    لمراكز التربية والتعليم، أن أصبحت نسبة المتعلمين في الجزائر تفوق نسبة
    المتعلمين في فرنسا، (فقد كتب الجنرال فالز سنة 1834م بأن كل العرب
    (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل
    قرية... أما الأستاذ ديميري، الذي درس طويلاً الحياة الجزائرية في القرن
    التاسع عشر، فقد أشار إلى أنه قد كان في قسنطينة وحدها قبل الاحتلال خمسة
    وثلاثون مسجدًا تستعمل كمراكز للتعليم، كما أن هناك سبع مدارس ابتدائية
    وثانوية يحضرها بين ستمائة وتسعمائة طالب، ويدرّس فيها أساتذة محترمون لهم
    أجور عالية).

    وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة 1830م، بأكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية.

    وكتب
    الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831م،
    يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة،
    غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما
    يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب).. وخير المثال ما
    شهد به الأعداء.
    وقد برز في هذه الفترة علماء في كثير من العلوم النقلية
    والعقلية، زخرت بمؤلفاتهم المكتبات العامة والخاصة في الجزائر، غير أن يد
    الاستعمار الغاشم عبثت بها سلبًا وحرقًا، في همجية لم يشهد لها التاريخ
    المعاصر مثيلاً.
    يقول أحد الغربيين واصفًا ذلك: (إن الفرنسيين عندما
    فتحوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي
    وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج).

    يظهر مما ذكرنا أنه كان
    للجزائر مكانها المرموق بين أقطار المغرب في خدمة علوم العربية والإسلام،
    كما قدّمت للميدان أعلامًا من رجالها، حملوا الأمانة، وكانت تُشدُّ إليهم
    الرحال في طلب العلم.

    ثانيًا : الحالة الثقافية والفكرية والدينية أثناء الاحتلال :

    يمكن تقسيم الفترة الممتدة من دخول الاستعمار إلى ظهور دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى مرحلتين:

    * المرحلة الأولى (1830-1900م):

    لم
    تقتصر اعتداءات الاحتلال الفرنسي للجزائر على الجوانب السياسية والعسكرية
    والاقتصادية فحسب، بل عمد إلى تدمير معالم الثقافة والفكر فيها، وقد ظهر
    حقده الصليبي في إصراره على تحطيم مقومات الأمة، وفي مقدمتها الدين
    الإسلامي واللغة العربية، معتمدًا في ذلك على ما يلي :

    1 - مصادرة الأوقاف الإسلامية:

    كان
    التعليم في الجزائر يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مردود الأوقاف الإسلامية في
    تأدية رسالته، وكانت هذه الأملاك قد وقفها أصحابها للخدمات الخيرية، وخاصة
    المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا. وكان الاستعمار يدرك بأن
    التعليم ليس أداة تجديد خُلقي فحسب، بل هو أداة سلطة وسلطان ووسيلة نفوذ
    وسيطرة، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة علىه، فوضع يده على الأوقاف، قاطعًا
    بذلك شرايين الحياة الثقافية.
    جاء في تقرير اللجنة الاستطلاعية التي بعث
    بها ملك فرنسا إلى الجزائر يوم 7/7/1833م ما يلي: (ضممنا إلى أملاك الدولة
    سائر العقارات التي كانت من أملاك الأوقاف، واستولينا على أملاك طبقة من
    السكان، كنا تعهدنا برعايتها وحمايتها... لقد انتهكنا حرمات المعاهد
    الدينيــة ونبشنــا القبــور، واقتحمنــا المنـازل التي لهـا حُرْمَتهـا
    عنـد المسلمين...).

    2- التضييق على التعليم العربي :

    أدرك
    المستعمر منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر، خطورة الرسالة التي تؤديها المساجد
    والكتاتيب والزوايا، في المحافظة على شخصية الأمة. فلم تكن هذه المراكز
    قاصرة على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل كانت أيضًا محاضر للتربية
    والتعليم وإعداد الرجال الصالحين المصلحين، لذلك صبّت فرنسا غضبها عليها
    بشدة، فعمدت إلى إخماد جذوة العلوم والمعارف تحت أنقاض المساجد والكتاتيب
    والزوايا، التي دُمّرت فلم تبق منها سوى جمرات ضئيلة في بعض الكتاتيب،
    دفعتها العقيدة الدينية، فحافظت على لغة القرآن ومبادئ الدين الحنيف في
    تعليم بسيط وأساليب بدائية.
    فقد حطم الفرنسيون في 18/12/1832م جامع
    كتشاوه، وحوّلوه بعد تشويه شكله وتغيير وضعيته إلى كاتدرائية، أُطلق عليها
    اسم القديس فيليب Cathedrale Saint Philipe ، والشيء نفسه وقع لمسجد حسن
    باي بقسنطينة غداة سقوطها بأيديهم(2) سنة 1837م.. هكذا اختفت كثير من
    الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم الإسلامي، التي كانت مزدهرة قبل الاحتلال
    الفرنسي. كما طالت يد الحقد الصليبي المكتبات العامة والخاصة، حيث أحــرق
    جنــود الجنــرال دوق دومـال Dauk Daumale مكتبــة الأميــر عبد القادر
    الجزائري بمدينة تاقدامت في ربيع الثاني 1259هـ، 10 مايو 1843م، وكان فيها
    من نوادر المخطوطات ونفائس المؤلفات ما لا يقدر بثمن، ونفس المصير واجهته
    معظم المكتبات الأخرى. إن هذه الحرب الشعواء التي شنها الاستعمار على الدين
    الإسلامي واللغة العربية، جعلت التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له،
    فحتى سنة 1901 -أي بعد حوالي 70 سنة من الاحتلال- كانت نسبة المتعلمين من
    الأهالي لا تتعدى 3.8%، فكادت الجزائر أن تتجه نحو الفرنسة والتغريب أكثر
    من اتجاهها نحو العروبة والإسلام. وقد تأثرت الحياة الفكرية والدينية في
    هذه الفترة ببعض العوامل الأخرى، نذكر منها ما يلي :

    أ- الطرق
    الصوفية : من الإنصاف أن نذكر هنا الدور الإيجابي الذي قامت به بعض الطرق
    الصوفية منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، فقد ساهمت بعض زواياها في نشر
    الثقافة العربية الإسلامية، كما قام كثير من رجالاتها بالتصدي للاستعمار
    والاستبسال في محاربته. فقد كان الأمير عبد القادر الجزائري راسخ القدم في
    التصوف، وكان الشيخ الحداد -أحد قادة ثورة القبائل الكبرى عام 1871م- قد
    انتهت إليه مشيخة الطريقة الرحمانية في وقته، إلا أن كثيرًا من الطرق قد
    انحرفت في ما بعد عن الخط العام الذي رسمه مؤسسوها الأوائل، فكثرت عندها
    البدع والضلالات والخرافات، وتقديس القبور والطواف حولها، والنذر لها،
    والذبح عندها، وغير ذلك من أعمال الجاهلية الأولى. كما أنه كانت لبعض
    رجالاتها مواقف متخاذلة تجاه الاستعمار، حيث سيطرت هذه الطرق على عقول
    أتباعها ومريديها، ونشرت بينهم التواكل والكسل، وثبّطت هممهم في الاستعداد
    للكفاح من أجل طرد المحتل الغاصب، بدعوى أن وجود الاحتلال في الجزائر هو من
    باب القضاء والقدر، الذي ينبغي التسليم به، والصبر عليه، وأن طاعته هي
    طاعة لولي الأمر. بهذه الروح المتخاذلة والتفكير المنحرف، كانت بعض الطرق
    سببًا في إطالة ليل الاستعمار المظلم في البلاد من جهة، وتفرق صفوف الأمة
    وضلالها في الدين والدنيا من جهة أخرى.
    ب- انتشار الجهل والأمية : لقد
    أدّت الثورات المتتالية التي خاضها الشعب ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم، إلى
    فقدان الأمة لزهرة علمائها في ميدان الجهاد. كما أن كثيرًا من المستنيرين
    من حملة الثقافة العربية الإسلامية هاجروا إلى المشرق العربي، وإلى البلاد
    الإسلامية الأخرى، يتحيّنون الفرص للرجوع إلى الوطن وتطهيره من سيطرة
    الفرنسيين، كل ذلك ساهم في انتشار الجهل وتفشي الأمية بين أفراد الأمة، مما
    أثّر سلبًا على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
    ج- المدارس البديلة التي
    أنشأها الاستعمار : لم تفتح هذه المدارس في حقيقة الأمر من أجل تعليم
    أبناء الجزائر، ورفع مستواهم الثقافي، بل كان الاستعمار يقصد من وراء ذلك
    عدة أمور، منها :

    - تجريد الشعب الجزائري من شخصيته العربية
    الإسلامية، ومحاولة إدماجه وصهره في البوتقة الفرنسية بإعطائه تعليمًا
    هزيلاً يجعله أسهل انقيادًا لسياسته.

    - قتل الروح الوطنية التي أدت إلى اشتعال الثورات المتوالية، وجعل الشعب أكثر خضوعًا للاحتلال.

    - إيجاد قلة متعلمة للاستفادة منها في بعض الوظائف التي تخدم الاحتلال.

    فقد
    أنشأت فرنسا لهذا الغرض عدة مدارس ابتدائية، منها المدارس (الفرنسوية
    الإسلامية Franco-Musulmane ، في الجزائر العاصمة وبعض المدن الأخرى
    ابتداءً من سنة 1836م.
    ولم تكن هناك مدارس للتعليم الثانوي والعالي إلا
    بحلول القرن العشرين، حيث فتحت المدرسة الثعالبية في عهد الحاكم الفرنسي
    (جونار) سنة 1904م، رغم أن مرسوم إنشائها صدر منذ سنة 1850م.
    د- هجر
    الأهالي للمدارس الفرنسية : كان الأهالي يتخوّفون كثيرًا من التعليم الرسمي
    المقصور على تعلّم اللغة الفرنسية وحضارتها، إذ رأوا فيه وسيلة خطيرة
    لفرنسة أبنائهم، فكان الإقبال على هذه المدارس ضئيلاً جدًا.. ومع عدم وجود
    المدارس الحرّة الكفيلة باحتضان أبناء المسلمين، فإن نسبة الأمية ارتفعت
    إلى درجة مذهلة، كما مر بنا آنفًا.
    كل هذه العوامل ساهمت بطريقة أو
    بأخرى في انتشار الجهل والأمية بين أفراد الشعب، مما جعل الحالة الثقافية
    والفكرية والدينية في تلك الفترة تبعث على الحزن والأسى.

    * المرحلة الثانية (1900-1914م):

    الأمة
    الجزائرية هي قطعة من المجموعة الإسلامية العظمى من جهة الدين، وهي ثلة من
    المجموعة العربية، من حيث اللغة التي هي لسان ذلك الدين. فالأمة الإسلامية
    بهذا الدين وهذا اللسان وحدة متماسكة الأجزاء، يأبى الله لها أن تتفرق وإن
    كثرت فيها دواعي الفرقة، ويأبى لها دينها، وهو دين التوحيد، إلا أن تكون
    موحدة.
    فعلى الرغم من الحصار الذي فرضته فرنسا على الجزائر لعزلها عن
    بقية الأقطار الإسلامية، خاصة تلك التي لم تُبْتَل بما ابتليت به من محاولة
    طمس دينها ولغتها، فإنه مع إطلالة القرن العشرين بدأت الجزائر تعيش حركة
    فكرية شبه متواصلة مع الأقطار الإسلامية الأخرى، سواء عن طريق الطلبة الذين
    ابتعثوا للدراسة في جامع الزيتونة والأزهر والجامعات الإسلامية الأخرى، أو
    عن طريق الدعوات الإصلاحية التي قامت في البلاد الإسلامية، مثل دعوة جمال
    الدين الأفغاني ومحمد عبده.

    وهناك عوامل أخرى ساعدت على قيام هذه
    الحركة الفكرية، كتلك البوادر الإصلاحية الفردية التي قام بها في الجزائر
    بعض العلماء المتفاعلين مع حركة الإصلاح الإسلامي.. ولعل مما ساعد على قيام
    هذه النهضة أيضًا، تولي المسيو (شارل جونار) الولاية العامة في الجزائر.

    وهنا نلقي بعض الضوء على جانب من تلك العوامل التي ساهمت في ظهور وانتعاش النهضة الفكرية في الجزائر:

    1- عودة الطلبة الذين درسوا في الخارج:

    وأقصد بهم الطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة، وجامعة القرويين، والأزهر، وفي الحجاز والشام.
    ساهم
    هؤلاء المثقفون بعد عودتهم إلى الوطن بجهود عظيمة في النهوض بالحياة
    الفكرية والدينية، بما أثاروا من همم وأحيوا من حمية، وبنوا من مدارس في
    مختلف أنحاء الوطن، وبما أصدروا من صحف، معتمدين في ذلك على كتاب الله وسنة
    رسوله صلى الله عليه و سلم، فأصلحوا العقائد، وصححوا المفاهيم، ونقّوا
    الأفكار من رواسب البدع والخرافات التي علقت بها، وأحيوا الشعلة التي
    أخمدها الاستعمار في نفوس الأمة.. ويوم اسوداد المآزم وتلاحم الخطوب،
    أعادوا ذكرى أسلافهم في الصبر والصمود.. ومن هؤلاء الرواد الذين ساهموا في
    إثراء هذه النهضة الفكرية الإسلامية بالجزائر نذكر:

    - الشيخ عبد
    القادر المجاوي [1848-1913م]: تخرج الشيخ المجاوي من جامعة القرويين بمدينة
    فاس، ويعتبر من العلماء القلائل الذين كانــوا على رأس الحركــة
    الإصلاحيــة في الجزائــر، (فلا تجد واحــدًا من هــؤلاء (المصلحين) في
    الربع الأول من هــذا القــرن إلا وهو من تلامذته).. خرّج أفواجًا كبيرة من
    المدرسين والأئمة والوعاظ والمترجمين والقضاة، كان من بينهم الشيخ (حمدان
    الونيسي) أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس.. وقد ترك الشيخ المجاوي آثارًا
    علمية كثيرة في اللغة والفلك والعقيدة والتصوف، نذكر منها: كتاب (الدرر
    النحوية)، و(الفريدة السنيَّة في الأعمال الحبيبية)، و(اللمع في إنكار
    البدع)، و(نصيحة المريدين)، وغيرها مما يضيق المقام بسردها.

    ومن بين رواد النهضة الإسلامية في تلك الفترة أيضًا العلامة :

    -
    الشيخ عبد الحليم بن سماية [1866-1933]: يعتبر الشيخ ابن سماية في مقدمة
    الأفاضل الذين أمدوا هذه النهضة بآثار فضلهم، ومن أوائل المصلحين
    الجزائريين الداعين لفكرة الإمام محمد عبده الإصلاحية، ومن رفاق الشيخ
    المجاوي في التدريس، كما يعدّ من أوسع علماء عصره علمًا وثقافة. (فقد تخرّج
    على يديه جيل من المثقفين مزدوجي الثقافة، وخلّف مؤلفات كثيرة منها كتاب
    (فلسفة الإسلام).

    ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن أغلب أعضاء
    البعثات العلمية التي ذكرنا سابقًا، قد ظهر تأثيرهم على الحياة الفكرية
    والحركة الإصلاحية بشكل ملحوظ، في العقدين الثالث والرابع من هذا القرن
    خاصة، مثل: الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي،
    والشيخ مبارك بن محمد الميلي، وغيرهم.
    2- الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي :

    كان
    للدعوة التي قادها الأستاذ جمال الدين الأفغاني أثر كبير في نشر الفكر
    الإصلاحي السلفي في الجزائر، فرغم الحصار الذي ضربه المستعمر لعزلها عن
    العالم الإسلامي، زار الشيخ محمد عبده -تلميذ الأستاذ جمال الدين- الجزائر
    عام 1903م، واجتمع بعدد من علمائها، منهم الشيخ محمد بن الخوجة، والشيخ عبد
    الحليم بن سماية، كما ألقى في الجزائر تفسير سورة العصر. وقد كان لمجلة
    العروة الوثقى ومجلة المنار، تأثير كبير على المثقفين من أهل الجزائر،
    الذين اعتبروا دروس العقيدة التي كانت تنشرها (المنار) للإمام محمد عبده،
    بمثابة حبل الوريد الذي يربطهم بأمتهم.
    وقد استمر الاتصال الفكري بين
    الجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية ولم ينقطع، فقد شارك الشيخ عمر بن قدور
    بقلمه في جريدة (الحضارة) بالآستانة، و(اللواء) و(المؤيد) بمصر سنة 1914م،
    وقد كانت هذه الجرائد والمجلات تدعو إلى نهضة العرب والمسلمين، وكانت
    رائجة في بلاد المغرب والجزائر خاصة.

    ويعترف الفرنسيون بأن هناك
    (مجرى سريًا، ولكنه غزير ومتواصل، من الصحف والمجلات الشرقية التي أعانت
    المغاربة في مجهوداتهم الإصلاحية، وجعلتهم مرتبطين أبدًا بالرأي العام
    العربي).

    3- ظهور الصحافة العربية الوطنية في الجزائر:

    ظهرت
    في الجزائر خلال تلك الفترة صحافة وطنية عربية، ساهمت مساهمة فعالة في بعث
    النهضة الفكرية والإصلاحية الحديثة. فقد عالجت في صفحاتها كثيرًا من
    الموضوعات الحساسة، منها: الدعوة إلى تعليم الأهالي، وفتح المدارس العربية
    لأبناء المسلمين، والتنديد بسياسة المستعمرين واليهود، ومقاومة الانحطاط
    الأخلاقي والبدع والخرافات. فهذا الأستاذ عـمـر راســم يجلجــل بآرائــه في
    غيــر مواربـة ولا خوف، فيقول: (أجل، يجب أن نتعلم لكي نشعر بأننا ضعفاء..
    يجب أن نتعلم لكي نعرف كيف نرفع أصواتنا في وجه الظلم.. يجب أن نتعلم لكي
    ندافع عن الحق، وتأبى نفوسنا الضيم، ولكي نطلب العدل والمساواة بين الناس
    في الحقوق الطبيعية، وفي النهاية لكي نموت أعزاء شرفاء ولا نعيش أذلاء
    جبناء). كما ظهر في هذا الميدان كتّاب شاركوا بمقالاتهم وتحليلاتهم في
    تشخيص الداء الذي ألمّ بالأمة، واقتراح الدواء الناجع لذلك، من هؤلاء الشيخ
    المولود بن الموهوب، والشيخ عبد الحليم بن سماية، والأستاذ عمر بن قدور
    وغيرهم.
    4- تولي (شارل جونار) الولاية العامة في الجزائر:

    على
    الرغم من أن المسيو (جونار) فرنسي نصراني، إلا أن وصوله إلى منصب الحاكم
    العام في الجزائر، كان له أثر كبير على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
    يُذكر أن هذا الأخير (شجّع إحياء فن العمارة الإسلامية، وبعْث التراث
    المكتوب، والتقرّب من طبقة المثقفين التقليديين، وتشجيعهم على القيام
    بمهمتهم القديمة، كإقامة الدروس في المساجد ونحوها)، كما اهتم بالتأليف
    ونشر الكتب العلمية وكتب التراث، مما كان له أثر هام على الحياة الثقافية
    في الجزائر.
    وقد أشرف (جونار) على فتح المدرسة الثعالبية سنة 1904م،
    بجوار مقام (سيدي عبد الرحمن الثعالبي) في حي القصبة بالعاصمة الجزائرية،
    وندب اثنين من الشيوخ للتدريس ونشر العلم بها، كما أمر بنشر كتابين هامين،
    أحدهما كتاب: (تعريف الخلف برجال السلف)، الذي صنّفه الشيخ أبو القاسم
    الحفناوي وطبعه سنة 1907م، والكتاب الثاني: (البستان في ذكر الأولياء
    والعلماء بتلمسان)، لابن مريم الشريف التلمساني، الذي تولى إعداده للنشـر
    الأستاذ (محمد ابن أبي شنب)، المدرِّس بالمدرسة الثعالبية الدولية، وطبع
    سنة 1908م برعاية المسيو (جونار).
    هذه باختصار أهم العوامل التي ساعدت
    على قيام تلك الحركة الفكرية الإصلاحية بالجزائر، في الفترة التي ظهر فيها
    الشيـخ عبد الحميد ابن باديس.

    وبهذا العرض المتواضع، تتضح لنا طبيعة
    الوسط الثقافي والفكري الذي تربى وترعرع فيه الشيخ ابن باديس، ويبقى أن
    نتعرف على شخصية الشيخ وأسرته ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، ومكانته العلمية.
    مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

    sami

    مُساهمة الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 9:25 am من طرف sami

    محاولة اغتيال ابن باديس


    كانت
    الحملات (في الصحافة الإصلاحية وخاصة في الشهاب) متوالية على الخرافات
    والأباطيل، وعلى المبتدعة و المضللين، واشترك في الكتابة فحول العلماء
    والمفكرين في الجزائر وتونس والمغرب وكان من أشدهم عنفا على الطريقة
    العليوية وشيخها المتهم بالحلول ووحدة الوجود، كاتب يمضي مقالاته باسم
    (بيضاوي) فحاول العليويين معرفة هذا الكاتب، ولكن إدارة الشهاب أبت الكشف
    عنه، كما كان الشيخ ابن باديس قد ألف رسالة علمية يرد فيها على الشيخ ابن
    عليوة لسوء أدبه مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى بعض شطحاته الحلولية
    المنافية للعقيدة الإسلامية، ولأهمية هذه الرسالة قرضها أهم كبار علماء
    الجزائر وتونس والمغرب.

    وهكذا تحرك غيض العلويين، فقرروا الفتك بابن
    باديس فعقدوا اجتماعا في مستغانم واتفقوا فيه أن يغتالوا الشيخ المصلح،
    وأرسلوا من ينفذ هذه الخطة، وفي قسنطينة شرع هذا الشخص الموفد مع بعض
    مساعديه يترصدون الشيخ لمعرفة مسكنه وتحركاته وأوقاته، وفي يوم 9 جمادى
    الثانية 1341 هـ الموافق ليوم 14/12 / 1926 م عندما كان عائد إلى بيته في
    منتصف الليل بعد انتهائه من دروسه في المسجد، أقدم الجاني على تنفيذ
    محاولته الآثمة، ولما دنا منه هوى عليه بهراوة وأصابه بضربتين على رأسه
    وصدعه، فشج رأسه وأدماه، لكن الشيخ أمسك به ونادى النجدة بضربتين وحاول
    المجرم أن يسل خنجرا من نوع (البوسعادي) ليجهز على الشيخ، و لكن الله نجاه،
    بفضل جماعة النجدة التي قبضت عليه، وأرادت الفتك به، فمنعهم الشيخ، عند
    ذلك ساقوه إلى الشرطة فأوقفته وفتشته فوجدت عنده سبحة وتذكرة ذهاب وإياب
    بتاريخ ذلك اليوم، (من مستغانم إلى قسنطينة) زيادة عن الموسى والعصا،
    فأودعته السجن ثم قدمته للمحاكمة فنال جزاءه، وصدر في شأنه الحكم بخمس
    سنوات سجنا. رغم أن ابن باديس عفا عنه في المحكمة قائلا : إن الرجل غرر به،
    لا يعرفني و لا أعرفه، فلا عداوة بيني و بينه، أطلقوا سراحه، ولكن الزبير
    بن باديس المحامي (شقيق الشيخ المعتدي عليه) قام باسم العائلة يدافع عن
    شرفها، ويطالب بحقها في تنفيذ الحكم قائلا : إن أخي بفعل الصدمة لم يعد يعي
    ما يقول إلى غير ذلك مما جرى في المحاكمة.

    وفي هذه الحادثة أنشد محمد العيد آل خليفة قصيدة منها:

    حَمتْك يَدُ المَوْلَى و كُنْتَ بِهَا أولَى فيَالكَ مِنْ شَيخَ حَمََتْهُ يَدُ المَـوْلَى

    فَيَا لو ضِيع النّفْسِ كَيفَ تَطاولتْ بِهِ نَفْسُه حتَّى أسرّ لَكَ القَـتـلاَ

    فَوَافَتكَ بالنَّصْر العَزِيزِ طَـلائـعٌ مُبَاركةٌ تَتْرى من الْـمـلأ الأعْلَى

    وإنْ أنْسَ لا أنْسَى الذينَ تَظَافَرُوا عَلى الفَتْكِ بالجَاني فقلتَ لَهُم مَهْلاَ

    وهذه
    الأبيات كما نرى تشتمل على غرضين أدبيين وهما : المدح و الهجاء، مدح ابن
    باديس، وهجاء المجرم الذي حاول اغتياله ومن هذه الحادثة نلمس مدى تسامح ابن
    باديس وعفوه عند المقدرة، والعفو عند المقدرة من شيم الكرام.






    شخصية ابن باديس و عوامل تكوينها


    نفضل
    هنا أن نترك ابن باديس يحدثنا عن العوامل التي أسهمت في تكوين شخصيته، كما
    يذكرها هو في ختام حفلة التكريم التي خصه بها إخوانه العلماء وتلاميذه
    بمناسبة الاحتفال بختم تفسيره للقرآن قال رحمه الله :

    " أنا رجل
    أشعر بكل ما له أثر في حياتي وبكل من له يد في تكويني، وإن الإنصاف ليدعوني
    أن أذكر في هذا الموقف بالتمجيد والتكريم كل العناصر التي كان لها الأثر
    في تكويني حتى تأخذ حظها مستوفى من كل ما أفرغتم علي من ثناء ومدح... وإني
    أشهد أن هذا التحفي عسير علي، ثقيل علي حمله. فلعلي إذا ذكرت هذه العناصر
    توزعت حصصها من التنويه، وتقاضت حقوقها من الثناء، الذي أثقلتم به كاهلي،
    فأكون بذلك قد أرضيت ضميري، وحففت على نفسي.

    1 – إن الفضل يرجع أولا
    إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم
    طريقة أتبعها، ومشربا أرده، و قاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وراشني،
    وحماني من المكاره صغيرا و كبيرا، وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني
    ولسانكم ما وسعني الشكر.

    2 – ثم لمشائخي الذين علموني العلم، وخطوا
    لي مناهج العمل في الحياة، ولم يبخسوا استعدادي حقه، وأذكر منهم رجلين لهما
    الأثر البليغ في تربيتي، وفي حياتي العملية، و هما (من مشائخي) اللذان
    تجاوزا بي حد التعلم المعهود... إلى التربية والتثقيف، والأخذ باليد إلى
    الغايات المثلى في الحياة؛ أحد الرجلين : الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني،
    وثانيهما : الشيخ محمد النخلي القيرواني المدرس بجامع الزيتونة المعمور.

    وإني لأذكر للأول وصية أوصاني بها، و عهدا عهد به إلي، وأذكر ذلك العهد في
    نفسي ومستقبلي وحياتي، فأوجدني مدينا لهذا الرجل بمنة لا يقوم بها الشكر،
    فقد أوصاني وشدد علي أن لا أقرب الوظيفة ما حييت، ولا أتخذ علمي مطية لها،
    كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت.

    وأذكر للثاني كلمة لا يقل
    أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية، وذلك أني
    كنت متبرما بأساليب المفسرين وتأويلاتهم الجدلية في كلام الله، ضيق الصدر
    من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن... فذاكرت يوما الشيخ النخلي
    فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي، " اجعل ذهنك مصفاة لهذه
    الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، والآراء المضطربة يسقط الساقط،
    ويبقي الصحيح وتستريح " فوالله لقد فتح عن ذهني آفاقا واسعة عهد له بها.

    3
    – ثم لإخواني العلماء الذين آزروني في العمل من فجر النهضة إلى الآن، فمن
    حظ الجزائر السعيد، ومن مفاخرها التي تتيه بها علي الأقطار أنه لم يجتمع في
    بلد من بلدان الإسلام (اليوم) فيما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من
    العلماء، وافرة الحظ من العلم، مؤتلفة القصد والاتجاه، مخلصة النية، متينة
    العزائم، متحابة في الحق مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية قد ألف بينها
    العلم والعمل ،مثلما اجتمع للجزائر في علمائها، فهؤلاء هم الذين وري بهم
    زنادي، وتأثل بطارفهم تلادي،أطال الله أعمارهم، و رفع أقدارهم.

    4 –
    ثم لهذه الأمة الكريمة المعوانة على الخير، المنطوية على أصول الكمال...
    التي – ما عملت يوما – علم الله – لإرضائها لذاتها، و إنما عملت وما أزال
    أعمل لإرضاء الله بخدمة دينها ولغتها، و لكن الله سددها في الفهم، وأرشدها
    إلى صواب الرأي، فتبينت قصدي على وجهه، وأعمالي على حقيقتها، فأعانت ونشطت
    بأقوالها وأموالها، و بفلذات أكبادها، فكان لها بذلك كله من الفضل في
    تكويني العملي أضعاف ما كان لتلك العناصر في تكويني العلمي ؟

    5 –
    ثم الفضل أولا و أخيرا لله و لكتابه الذي هدانا لفهمه ،و التفقه في أسراره،
    والتأدب بآدابه ، وإن القرآن الذي كون رجال السلف لا يكثر عليه أن يكون
    رجالا في الخلف، لو أحسن فهمه و تدبره، و حملت الأنفس على منهاجه ".

    وبهذا فإنشخصية ابن باديس شخصية متعددة الجوانب متنوعة المواهب، فقد توفرت لها مؤهلات من النادر أن تجتمع في شخصية واحدة.

    فهو
    : عالم ورع وفقيه في أمور الدين، مساير لمقتضيات العصر وظروف الحياة، معلم
    موهوب، مجدد في أساليب التعليم، وصاحب مذهب في تفسير كتاب الله وزعيم من
    زعماء الفكر الإصلاحي والنضال السياسي له آراء و مواقف في الدين والأخلاق
    والسياسة ثم هو كاتب بارع وخطيب بليغ و شاعر وإن كان مقلا وصحافي ناجح.

    و
    من يتتبع حياته ويدرس جوانب شخصيته يلمس بوضوح هذه الجوانب المختلفة فهو
    يجمع إلى جانب القدرة على الكتابة البليغة الهادفة والخطابة المؤثرة وقول
    الشعر الوطني، الإمامة في العلم والدين، والزعامة في النضال السياسي
    والإصلاح الاجتماعي يزين كل ذلك سعة الاطلاع، وعمق التفكير، ومتانة في
    الخلق، واستقامة في السلوك وذكاء حاد، ووعي كامل بمشكلات العصر، وإدراك
    شامل لوضعية شعبه، وما ينبغي أن يكون عليه إذ أخذ بأسباب الحياة – كان رحمه
    الله – قائد ركب ومحرر شعب، لقد صحح مفاهيم الحياة الإسلامية التي اهتزت
    بعنف أمام ضربات الاستعمار المتتالية، في وقت ساد فيه الجهل، وعم فيه
    الجمود، وانتشرت الخرافة وانحطت كرامة الإنسان العربي، وأهدرت قيمة المسلم،
    و زاد ابن باديس هذه المفاهيم تحديدا و وضوحا بسلوكه المثالي، وتفكيره
    المتزن والمتوازن، و بحكمته وحنكته مع التوفيق الإلهي الذي كان يسند حركته
    ،فعاد النور الهادي من جديد يضيء الطريق للسالكين خلف القائد الملهم .

    وهكذا الأغنياء في قوة الودعاء و وداعة الأقوياء، فكان الرجل الذي أجمع
    الجميع على حبه و تقديره، وحتى الأعداء الذين كانوا يحاربونه، كانوا مع ذلك
    يجلونه ويهابونه.

    شيوخ ابن باديس


    يُرجِع
    ابنُ باديس الفضلَ في تكوينه العلمي إلى والده، الذي ربّاه تربية صالحة،
    ووجّهه وجهة سليمة، ورضي له العلم طريقًا يتبعه، ومشربًا يَرِدُهُ، ولم
    يشغله بغيره من أعباء الحياة، فكفله وحماه من المكاره صغيرًا وكبيرًا.
    يمكن تقسيم أساتذة عبد الحميد إلى قسمين :

    القسم الأول :

    هم الأساتذة الذين درس عليهم فعلا، وهؤلاء عددهم كثير نذكر منهم الأساتذة أسماؤهم فقط.وهم :

    1- الشيخ محمد المداسي وهو الذي حفظ على يديه القرآن الكريم بمدينة قسنطينة وهو أول معلم لعبد الحميد بن باديس

    2-
    الشيخ "أحمد أبو حمدان لونيسي" وهو الأستاذ الذي تلقى عليه دراسته
    الابتدائية في اللغة العربية والثقافية الإسلامية بمدينة قسنطينة قبل أن
    يسافر للدراسة في جامع الزيتونة بتونس سنة 1908 م.

    وقد كان للشيخ "حمدان لونيسي" العالم المتصوف تأثير بعيد المدى في شخصية ابن باديس وتوجيهه العامل يذكره بإجلال كبير طوال حياته.

    وقد
    أوصاه "أن يقرأ العلم للعلم لا للوظيف ولا للرغيف" وأخذ عليه عهد غليظا
    ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا أبدا حتى لا تكبله بقيودها الثقيلة.

    وقد
    نفذ عبد الحميد بن باديس وصية أستاذه تنفيذا كاملا فلم يقبل الوظائف التي
    عرضت عليه ولم يسع وراءها حتى وافاة أجله المحتوم. كما أوصى هو بدوه
    تلاميذه ألا يقربوا الوظائف الحكومية عند فرنسا ولا يقبلوها إذا عرضت عليهم
    حتى يعيشوا أحرارا لأفكارهم ومبادئهم ورسالتهم الإصلاحية.

    3- الأستاذ محمد النخلي القيرواني الأستاذ بجامح الزيتونة، وزعيم النهضة الفكرية به.

    4- الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور الأستاذ بجامع الزيتونة وباعث النهضة الإصلاحية بالجامع الأعظم.

    5- الأستاذ محمد الخضر بن الحسين، الذي درس عليه في الزيتونة وفي منزله بتونس قبل أن يهاجر إلى الشرق العربي ويستقر به.

    6- الأستاذ محمد الصادق النيفر، الأستاذ بجامع الزيتونة.

    7- الشيخ سعيد العياضي (الجزائري) المصلح المجدد.

    8- الأستاذ محمد بن القاضي الأستاذ بجامع الزيتونة.

    9- الأستاذ أبو محمد بلحسن بن الشيخ المفتي النجار – الأستاذ بجامع الزيتونة.

    10- الأستاذ البشير صفر السياسي والمؤرخ التونسي المعروف.

    ويذكر
    عبد الحميد بن باديس في مجلة "الشهاب" وفي جريدة "البصائر" أن الأساتذة
    الذين أثروا في تكوينه الفكري وفي اتجاهه الإصلاحي والوطني الذي إلتزمه
    طوال حياته لا يتجاوز عددهم أربعة أساتذة فقد وهم على الترتيب :

    أ‌-
    الشيخ حمدان لونيسي العالم المتصوف القسنطيني الجزائري : المهاجر إلى
    المدينة المنورة والمدفون بها. وقد كان له تأثير كبير في تكوينه العلمي
    والعملي معا وهو الأستاذ الأول الذي تلقى عليه دراسته الابتدائية في
    قسنطينة قبل أن يسافر إلى الدراسة في جامع الزيتونة بتونس كما ذكرنا منذ
    قليل.

    ب‌-الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : الذي يصفه بأنه ثاني الرجلين
    اللذين يشار إليهما (في تونس) بالرسوخ في العلم والتحقيق في النظر والسمو
    في التفكير. وقد بدأ اتصاله به قبل حصوله على شهادة العالمية بعام واحد
    ولازمه مدة ثلاث سنوات وكان قبل ذلك يصرفه البعض من أساتذته الجامدين عن
    الاتصال به بدعوى أنه من رجال البدعة في زعمهم لأنه من اتباع مدرسة جمال
    الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومن العامين على نشرها في أوساط طلبة جامع
    الزيتونة.

    وقد درس ابن باديس عليه الأدب العربي في ديوانه الحماسة
    لأبي تمام وتأثر به في تكوين ذوقه الأدبي واللغوي تأثرا كبيرًا صوره لنا
    بقوله : " وأن أنس فلا أنسى دروسا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ
    ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في
    كلام العرب، وبثت في روحا جديدا في فهم المنظوم والمنثور واحيت في الشعور
    بعز العروبة والاعتزاز بها كما اعتز بالإسلام" (ابن باديس - جريدة البصائر –
    العدد 16، السنة الأولى، الجزائر، في 24 أبريل سنة 1936 م.

    للعلم
    الشيخ طاهر بن عاشور من مواليد سنة 1897 م بتونس حيث تقلد عدة مناصب علمية
    منها : قاضي القضاة سنة 1921 م، وعمادة مجلس الشورى المالكي، ومشيخة جامع
    الزيتونة. وقد أدخل عليه عدة إصلاحات جوهرية في مناهجه الدراسية. وله
    مجموعة من المؤلفات مذكورة في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".

    ج- الشيخ محمد النخلي القيرواني (تـ 1342 هـ/1924 م) : الذي تأثرا عمقا من ناحية فهم القرآن الكريم وتفسيره.

    والشيخ النخلي والشيخ ابن عاشور، يعتبران من رواد النهضة الفكرية
    والإصلاحية بتونس في العصر الحديث، كما يعتبران من أبرز أتباع مدرسة الإمام
    محمد عبده والعاملين على نشرها في تونس.

    والشيخ محمد الطاهر بن عاشور هو الذي عرف ابن باديس بالشيخ النخلي ومهد له سبيل التعرف عليه والاتصال به.

    ويحدثنا الشيخ عبد الحميد بن باديس عن أول معرفته بهذين الأستاذين
    اللذين تأثر بهما كثيرا في الناحية العلمية والأدبية وعن كيفية اتصاله بهما
    لأول مرة، فيقول : "عرفت هذا الأستاذ (الطاهر بن عاشور) في جامع الزيتونة.
    وهو ثاني الرجلين اللذين يشار إليهما بالرسوخ في العلم، والتحقيق في
    النظر، والسمو والاتساع في التفكير. أولهما العلامة الأستاذ شيخنا (محمد
    النخلي) القيرواني، رحمه الله. وثانيهما الأستاذ شيخنا (الطاهر بن عاشور)
    وكانا كما يشار إليهما بالضلال والبدعة وما هو أكثر من ذلك لأنهما كانا
    يحبذان آراء الأستاذ (محمد عبده) في الإصلاح ويناضلان عنها ويبثانها فيمن
    يقرأ عليهما. وكان هذا مما استطاع بع الوسط الزيتوني أن يصرفني عنهما وما
    تخلصت من تلك البيئة الجامدة، واتصلت بهما حتى حصلت على شهادة "العالمية"
    ووجدت لنفسي الاختيار فاتصلت بهما عامين كاملين، كان لهما في حياتي العلمية
    أعظم الأثر على أن الأستاذ ابن عاشور اتصلت به قبل نيل الشهادة بسنة فكان
    ذلك تمهيدا لاتصالي الوثيق بالأستاذ النخلي" (عبد الحميد بن باديس
    "البصائر" السنة الأولى، العدد 16، الجزائر، في أفريل، سنة 1936 م).

    د-
    الأستاذ البشير الصفر : وقد أرجع إليه ابن باديس الفضل في معرفته بالتاريخ
    العربي والإسلامي والقومي مما كون منه جنديا من جنود الجزائر.


    ويعتبر الأستاذ بشير صفر الذي درس في أوروبا ويعرف عدة لغات حية من
    المصلحين المجددين في تونس ومن بناة النهضة العلمية والفكر الحديثة بها،
    وكان يشتغل بالتدريس في جامع الزيتونة ومدرسة الخلدونية وقد تقلد عدة مناصب
    علمية وسياسية في تونس.

    يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس :
    "وأنا شخصيا أصرح بأن كراريس (البشير الصفر) الصغيرة الحجم الغزيرة العلم،
    هي التي كان لها الفضل في إطلاعي على تاريخ أمتي، والتي زرعت في صدري هذه
    الروح التي انتهت اليوم لأن أكون جنديا من جنود الجزائر" (ابن باديس "مجلة
    الشهاب" ج5، م13، ص : 225 – 228 عدد يوليو/جويلية سنة 1937 م. من محاضرته
    له في الذكرى العشرينية لوفاة الأستاذ البشير الصفر).


    والجدير بالملاحظة أن الشيخ عبد الحميد بن باديس يرجع الفضل في تكوين
    العلمي والفكري إلى هؤلاء الأساتذة الذين ذكرناهم فهم الذين علموه العلم
    وخطوا له مناهج العمل في الحياة ولم يبخسوا استعداده الفطري حقه. يقول : "
    وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العلمية وهما
    من مشائخي الذين تجاوزوا بي حد التعليم المعهود من أمثالهم لأمثالي إلى
    التربية والتثقيف، والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة، أحد الرجلين
    الشيخ حمدان لونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما
    الشيخ محمد النخلي المدرس بجامع الزيتونة المعمورة رحمهما الله" (ابن باديس
    مجلة "الشهاب" عدد خاص، ج 4-5، يونيو ويوليو/جوان وجويلية، سنة 1938 م، ص :
    288-291).

    ثم يفصل فضل هذين الأستاذين عليه في توجيهه من
    الناحية العلمية والعمل مما كان له تأثير الكبير في حياته، فيقول : "وإني
    لأذكر للأول (حمدان لونيسي) وصية أوصاني بها وعهدا عهد به إلي وأذكر ذلك
    العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله، فأجدني مدينا لهذا الرجل بمنه
    لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدد علي ألا اقرب الوظيفة ولا أرضاها ما
    حييت ولا أتخذ علمي مطية لها كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت".

    وأذكر
    للثاني (النخلي) كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية
    في ناحيتي العلمية، وذلك أنني كنت متبرما بأساليب المفسرين وإدخالهم
    لتأويلاتهم الجدلية وإصلاحاتهم المذهبية في كلام الله ضيق الصدر من
    اختلافهم فيما لا اختلاف فيه القرآن. وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد
    واحترام آراء الرجال، حتى في دين الله، وكتاب الله، فذاكرت يوما الشيخ
    الخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال : " اجعل ذهنك مصفاة لهذه
    الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط
    الساقط ويبقى الصحيح وتسريح فو الله لقد فتح بهذه الكلمات القليلة على ذهني
    افاقا واسعة لا عهد له بها".

    أما القسم الثاني :

    من أساتذة
    عبد الحميد بن باديس فهم الذين لم يتلق عليهم العلم بطريق مباشر وإنما
    تتلمذ عليهم عن طريق آثارهم وكتاباتهم، وقد حدثنا عن واحد منهم حديثا مفصلا
    وهو الأستاذ "طاهر بن صالح بن أحمد موهوب السمعوني الجزائري" المهاجر من
    الجزائر إلى ديار الشام حيث تولى قضاء المالكية بها.

    وقد ارجع إليه
    الفضل في تكوين فكره منذ أن كان صغيرا إلى أن أصبح رجلا وكان يدعوه "شيخي"
    وقد كتب عنه دراسة طويلة في مجلة "الشهاب" تحت عنوان "شيخي" جاء فيها قوله :
    "هو الذي ربى عقلي، وهو الذي جبَّب إلي هذا الاتجاه الفكري، منذ أن كنت
    طفلا إلى أن صرت رجلا، ولا أعرف مؤلفًا ولا حامل قلم نشأ في ديار الشام إلا
    وقد كانت له صلة إما مباشرة أو بواسطة الذين استفادوا منه..."

    وبالإجمال هو جرثومة الخير الأولى. (بابن باديس "مجلة الشهاب" ج5، م13، ص : 230، عدد يوليو/جويلية سنة 1938 م).

    ومنهم
    الشيخ محمد عبده الذي تأثر بأفكاره وآرائه الإصلاحية عن طريق مجلة
    "المنار" التي كان الشيخ عبد الحميد بن باديس ينقل منها أحيانا بعض
    المقالات وينشرها في مجلة الشهاب، كما كانت له مراسلات وكتابات مع صاحبها
    الشيخ رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده.

    ومنهم الإمام أبو بكر بن
    العربي المتوفى سنة 543 هجرية صاحب كتاب "العواصم من القواصم" الذي نبهه
    إليه الشيخ محمد النخلي فبحث عنه وقرأه ثم استنسخه وقام بطبعه في جزأين بعد
    عودته إلى الجزائر من تونس وقدم له بمقدمة هامة.

    ويظهر تأثير
    الإمام أبي بكر العربي في الشيخ عبد الحميد بن باديس في كتابه "العقائد
    الإسلامية" الذي لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة، ولا منهج المتكلمين وإنما نهج
    القرآن الكريم في الاستدلال، وأساليبه في الرد والحجاج، ذلك المنهج الذي
    "يتلاءم مع الفطرة الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه وتميل نحوه وتركن" .

    ومنهم
    الشيخ "محمد بخيث المطيعي" العالم الازهري المشهور وزميل الإمام محمد
    عبده، والمدافع عنه والحامل للفكر الإصلاحية في الأزهر وهو أحد تلامذة
    السيد "جمال الدين الأفغاني". 6

    وقد اتصل به الشيخ عبد الحميد بن
    باديس أثناء رجوعه من الحج سنة 1913 وزاره في بيته بحلوان وكتب له اجازة في
    دفتر إجازاته وعند وفاته سنة 1935 م ترجم له ابن باديس في مجلة الشهاب
    ج11، م11، ص : 606 – 617 عدد فبراير سنة 1936 ترجمة وافية.

    وقد كان
    ابن باديس يتمتع باحترام أساتذته الكبير نظرا لجده ومتانة خلقه، وغزارة
    علمه، والدليل على ذلك أنه عندما كتب رسالة تحت عنوان "رالسة جواب سؤال عن
    سوء مقال" في عام 1340 هجرية للرد على الشيخ ابن عليوة المتصوف وشيخ
    الطريقة العليوية في مستغانم بالغرب الجزائري في البدع التي أحدثها في
    الدين، قام عدد كبير من أساتذته بتقريظها وأرسلوا إليه بتقاريظهم تباعا
    قطبعها ونشرها في الجزء الأخير من الرسالة المذكورة كما نشر فيها كذلك اسم
    العلماء المقرظين مع بيان وظائفهم وبلدانهم (انظر نص الرسالة والتقاريظ
    وأسماء العلماء ووظائفهم وبلدانهم في كتاب " ابن باديس حياته وآثاره" ج3، ص
    : 152 – 174، جمع وترتيب عمار الطالبي، مكتبة الشركة الجزائرية سنة 1968
    م).
    sami

    مُساهمة الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 9:26 am من طرف sami

    وفاته


    لقد
    عاش الشيخ عبد الحميد بن باديس للفكرة والمبدأ ومات وهو يهتف (فإذا هلكت
    فصيحتي تحيا الجزائر والعرب) لم يحد عن فكرته ومبدئه قيد أنملة حتى آخر رمق
    من حياته، ولم يبال بصحته الضعيفة التي تدهورة كثيرا في السنتين الأخيرة
    من حياته، هذا هو ابن باديس الذي عرفته الجزائر عالما عاملا, وفقيها
    مجتهدا, ومربِّيا مخلصا, ومصلحا, وسياسيا, وإماما كان يقضي بياض نهاره
    وسواد ليله في خدمة دينه ولغته وبلاده. هذا هو الرجل الذي كان قلب الجزائر
    النابض, وروحها الوثابة وضميرها اليقظ, وفكرها المتبصر, ولسانها المبين, لم
    يضعف أمام هجمات الاستعمار المتتالية, ولم يستسلم لمناوراته وتهديداته,
    ولا للإغراءات والمساومات, بل بقي ثابتا على مبادئه صامدا حتى آخر حياته.

    مساء
    يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359 هـ ، الموافق 16 أبريل 1940م، على
    الساعة الثانية والنصف بعد الزوال أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها،
    متأثرًا بمرضه بمسقط رأسه مدينة قسنطينة، وكان محاطا بوالده وشقيقه الأكبر
    (الزبير) والطبيب الفرنسي القادم من العاصمة "ليفي فالونزي" وابن خاله
    الطبيب القسنطيني الشهير "بن جلول", وقد مات رحمه الله ولم تكن في رأسه
    شعرة بيضاء واحدة.

    ولما أعلن البرّاح في الناس خبر وفاته اهتزّت
    أوجاع تلاميذه ومساعديه في مهنة التعليم والمتاعب, وعندما شاع خبر وفاته في
    الجزائر بكاه أبناء الوطن بكاءا حارا كما بكاه عارفوه، ومقدرو علمه،
    وجهاده، في سبيل الجزائر والإسلام، والعروبة، في كل من المغرب وتونس
    وليبيا، والمشرق العربي والعالم الإسلامي.

    وقد شيعت جنازته في اليوم
    التالي لوفاته الموافق عصر يوم الأربعاء 9 ربيع الأول سنة 1359 هـ ،
    الموافق 17 أبريل 1940م، وحمل جثمانه إلى مثواه الأخير طلبة الجامع الأخضر
    دون غيرهم وسط جموع غفيرة ما يزيد عن مائة ألف نسمة، جاءوا من كافة أنحاء
    القطر الجزائري لتوديعه الوداع الأخير، في حين كان عدد سكان قسنطينة آنذاك
    لا يتجاوز 50 ألف نسمة. وقد تولى أداء الصلاة على جنازته الشيخ العربي
    التبسي, كما تولى تأبينه كل من الشيخ مبارك الميلي والعربي التبسي والدكتور
    محمد الصالح بن جلول يجدر، ودفن في مقبرة آل باديس الخاصة في مدينة
    قسنطينة رغم وصيته التي أوصى فيها بدفنه في مقبرة شعبية عامة.

    وقد
    تركت وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس فراغا كبيرا في صفوف الحركة الوطنية،
    وفي رجال الإصلاح الإسلامي في الجزائر وغيرها، وبين جماهير الشعب التي كانت
    تعتبره الزعيم المخلص، والوطني الغيور على دينه، ولغته، وشعبه، ووطنه،
    وعلى الإسلام والعروبة، بصفة خاصة وقد قال الشيخ الشهيد العربي بن بلقاسم
    التبسي في تأبينه في المقبرة ما يلي : "لقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس
    في جهاده وأعماله، هو الجزائر كلها فلنتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي
    الشيخ عبد الحميد بن باديس".

    هذا وحامت الأقاويل حول موته، فمن قائل
    مات مسموماً كما زعمت إذاعة ألمانيا "هنا برلين" يوم 09 ماي 1940 م على
    لسان "تقي الدين الهلالي" : "أن السلطات الفرنسية في الجزائر هي المسؤولة
    على وفاته، وقد ذكرت أنه مات مسموما على أيدي الفرنسيين، كما فعلوا بمعظم
    العلماء، الذين ما يزال بعضهم يعاني في ظلمات السجون، وأن الطغاة الفرنسيين
    أرادوا تسميمه، وقد قتلوا جميع الزعماء من قبله والشعب الجزائري اليوم
    يطالب لفديته، وسينتقم له عاجلا أو آجلا" وربما هذا ما يفسر اختفاء الشيخ
    العربي التبسي ووفاة الشيخ الميلي والطيب بأمراض مجهولة.

    ومن قائل
    أنه مات بسبب مرض، فيقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي : "بعد استقراري في
    المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله –
    بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء كان يحس به وسنوات ويمنعه انهماكه في
    التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه... وكنت بدأت نذر الحرب تظهر
    وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ أبن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع
    إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، قلّبنا وجوه الرأي في
    الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه
    نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا، فقبضه الله إليه".

    كما
    أشار ابن جلول وهو من بين المأبنين البارزين للشيخ ابن باديس وابن خاله
    إلى مرض ابن باديس الذي ظل مجهولا حتى عند أقرب الناس إليه فيقول :"وبحكم
    مهنتي كطبيب تشرفت ببذل المعالجة له خلال مرضه الأخير, الذي قضى عليه ولم
    يرض بالتوجه إلي ومنحي ثقته لمعالجته إلا بعد أن فطنا له مرهق منذ عهد
    بعيد, وأن مشيه من مكتبه إلى الجمعية, إلى الجامع الأخضر قد أصبح مضنيا
    بالنسبة إليه, وقد بذلت ما في وسعي لكسب ثقته, وبذل الشفاء له, ويا أسفاه
    فالمرض قد كان يمخر جسمه شيئا فشيئا".

    ويقول ابن جلول : أن ابن
    باديس بلغ منه التعب والإرهاق مبلغا جعله في آخر أيامه لا يقوى على تجاوز
    مسافة تقدر بمئتي متر على قدميه نظرا لتمكن المرض من جسمه النحيف المتهالك,
    فكان مرقده إلى جوار حجرة دروسه ولما أنهكه العيي, وهو الذي قاومه خمسين
    سنة, أذن لطلابه لأول مرة في حياته منحهم خمسة عشر يوما كعطلة بمناسبة
    المولد النبوي بعدما عرف عنه أنه لم يكن يقبل بأكثر من ثلاثة أيام كتوقف عن
    التحصيل, ولما أظهر طلابه المتعلقون به تعجبهم من هذا التسريح الذي يدوم
    نصف شهر, أجابهم بلغة يائسة وألم يمزق أحشاءه وحسرة تعتصر قلبه :"إنني
    متهالك... إنني مريض للغاية فاعذروني" فلم يعلن رجل كابن باديس أنه انهار
    فمعنى ذلك أن في الأمر ما يدفع إلى التساؤل عن كيفية الرعاية التي كان يحظى
    بها في مدينة قسنطينة وأعني بذلك الرعاية الصحية والغذائية والنفسية.

    ومن
    قائل أنه مات موتة طبيعية، وهو ما يؤكده الأستاذ عبد الحق أخو الشيخ بن
    باديس : " كان ابن باديس نحيف الجسم، ولم يكن يُعطي لنفسه قسطا من الراحة،
    فيومه يبدأ مع صلاة الصبح، ولا ينتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل، وهذا
    لمدة 25 سنة قضاها بأيامها ولياليها في التدريس والتفسير، وإلقاء المحاضرات
    ودروس الوعظ والإرشاد، والكتابة في الصحافة، وإدارة الأعمال الإدارية
    وكثرة السفر حيث كان يستقل قطار (قسنطينة – الجزائر) كل مساء أربعاء ليعود
    مساء كل جمعة, وزادت حصصه التدريسية اليومية لترتفع إلى ثلاث حصص في
    اليوم.. ومع أنه لم يكن يعاني من أي مرض حتى أنه لم يلبس في حياته نظارات
    طبية ولم يشتكي من تسوس أسنانه إلا أنه رقد في فراش المرض في 14 أفريل 1940
    وعلى مدى ثلاثة أيام لم يستطع مغادرة فراشه فكان يقوم بتمريضه "من ضعفه
    وشحوبه" والده وشقيقته "بتول" طوال النهار ويتولى "عبد الحق" السهر معه
    ليلا، فالإرهاق والتعب والزهد في الحياة، وثقل المسئولية التي كانت يشعر
    بها تجاه الأمة الجزائرية هي السبب المباشر لوفاته عندما حان وقت تسليم
    الروح إلى خالقها".

    - ولا يعلم الحقيقة إلا الله - وذلك شأن الناس عند موت كل عظيم.




    وصف حي لشاهد معاصر لجنازة الشيخ عبد الحميد بن باديس


    يعتبر
    الشيخ أحمد بوشمال بمثابة الساعد الأيمن للشيخ عبد الحميد بن باديس في
    حركته الإصلاحية (1913 – 1940)، وأمين سره، إلى جانب ذلك فهو مدير مطبعة
    الشهاب المسمات المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة.

    وقد بعث
    الشيخ أحمد بوشمال، الرسالة التالية إلى الشيخ أحمد بن بوزيد قصبة، أحد
    رجالات الحركة الإصلاحية في مدينة لغواط وضواحيها، من جنوب جزائرنا الشاسع
    الأطراف.

    وموضوع الرسالة المذكورة هو وصف حي لوفاة رائد النهضة
    الإسلامية العربية في الجزائر المعاصرة، وتاريخ وفاته، والجماهير الغفيرة
    التي سارت في جنازته، إلى المقبرة، والتي قدرتها الرسالة فيما بين خمسين
    وسبيعن ألف مواطن ومواطنة.

    ثم أشار إلى أن وفاة الشيخ عبد الحميد
    بن باديس تعتبر مصيبة جلى، وداهية عظمى على الأمة الجزائرية، وفيما يلي نص
    الرسالة المذكورة (نقلا عن جريدة الشروق اليومي عدد 654 ليوم 23/12/2002).

    نص الرسالة المذكورة == إضغط على الرابط ==

    https://servimg.com/view/11715167/40




    كرونولوجيا الأحداث


    في حياة الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس
    (ا 5 ديسمبر 1889 – 16 أفريل 1940)

    إعداد د. البشير صوالحي

    1889-
    ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في أسرة قسنطينية مشهورة
    بالعلم والثراء والجاه، وكان يفتخر بجده الأعلى المعز بن باديس، الذي حارب
    فرق الشيعة في افريقيا من اسماعيليين وفاطميين.

    1894- التحق بالكتاب
    (يسمى في الجزائر المسيد) لتعلم القرآن، وأتم حفظه في السنة الثالثة عشر
    من عمره، ثم تتلمذ على الشيخ حمد بن لونيسي وتلقى على يديه مبادئ العلوم
    العربية والإسلامية.

    1908- سافر إلى تونس لمتابعة تعليمه العالي في
    جامع الزيتونة فنال عام 1912 شهادة "التطويع" وكعادة الخريجين في ذلك الوقت
    كان عليه أن يدرس في جامع الزيتونة عاما واحدا.

    1913- عاد إلى
    قسنطينة وشرع لتوه في العمل التربوي. ثم عاد عشية الحرب العالمية الأولى
    إلى تونس حيث تابع تحصيله العلمي لبعض الوقت، لكنه سرعان ما انتقل إلى
    الحجاز بغرض الحج، وهناك تعرف على الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وبلورا مع
    بعض الأسس الأولى للعمل الإصلاحي والدعوي في الجزائر وكما يقول الشيخ
    البشير الإبراهيمي أن تلك الجلسات التي دامت ستة أشهر شهدت وضع لبنات جمعية
    العلماء المسلمين الجزائريين.
    ومن الحجاز زار عدة بلدان في المشرق
    الإسلامي مثل دمشق ولبنان ثم زار مصر وهناك اتصل بالشيخ "بخيت" زميل الشيخ
    محمد عبده وحامل أفكاره الإصلاحية، واستفاد منه كثيرا.

    1917- عاد
    ابن باديس إلى قسنطينة للمرة الثانية، واستأنف فيها نشاطه التربوي، فأسس
    مدرسة عصرية في مبنى مسجد سيدي بومعزة، ثم انتقلت بعد اشتداد الإقبال عليها
    إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية. ثم توسع نشاطه التعليمي في عدة مساجد
    في قسنطينة قبل أن يستقر به المقام في الجامع الأخضر الذي شهد إقبال
    الطلبة من جميع نواحي الجزائر، ومن هناك كانت ولادة النهضة الإصلاحية في
    القطر الجزائري.

    1925- أصدر أول جريدة له باسم "المنتقد" وكان
    شعارها "الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء". وكما يدل عليها اسمها فقد
    كانت ثورة على كل المظاهر المنحرفة في المجتمع الجزائري الذي كان يرزح تحت
    نير الاستعمار، بهدف تنبيه المجتمع إلى مواطن الخلل. وركزت على نقد الطرق
    الصوفية التي كانت تمثل الإسلام بصورة مشوهة وكانت توجه أتباعها من خلال
    المقولة الخطيرة "اعتقد ولا تنتقد" فكان ابن باديس رحمه الله يردد "انتقد
    ولا تعتقد".

    1926- أصدر مجلة "الشهاب" بعد إيقاف "المنتقد"، وكان
    لها شعاران واحد إصلاحي تربوي يتضمن مقولة الإمام مالك رحمه الله "لا يصلح
    آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" وثان سياسي عملي "جميع الحقوق لمن
    قاموا بجميع الواجبات".. وبمثل هذه الشعارات كان الشيخ ابن باديس يرسخ
    المفاهيم الإصلاحية في أذهان القراء، وكان كل شعار يعكس المرحلة والطور
    الذي تمر به الدعوة الإصلاحية. كما ساهم الشيخ ابن باديس في إصدار العديد
    من الجرائد والمجلات الأخرى منها: السنة، الصراط، الشريعة والبصائر.

    1927- زاول نشاطه الإصلاحي ضمن ناد الترقي الذي أسسه نخبة من المثقفين، وقد لعب هذا النادي بعد ذلك دورا مهما في ولادة الجمعية.

    1931-
    أسس مع ما يزيد من مائة من علماء الجزائر جمعية العلماء المسلمين
    الجزائريين، وانتخب رئيسا لها غيابيا. وقد رسمت الجمعية أهدافها لتكون
    إصلاحية ووطنية. ففي المجال الديني كانت الجمعية تهدف إلى تطهير الدين
    الإسلامي مما علق به من شوائب البدع والخرافات والعودة به إلى أصوله
    الأولى. وفي المجال التربوي كانت غايتها تنشئة جيل جزائري جديد، مسلح
    بثقافة وطنية وفكر إسلامي ليكون أهلا لإحراز النصر.

    1935- بلغ عدد
    المدارس التي أسستها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين 70 مدرسة تعليمية
    في أنحاء الوطن ويقدر عدد تلامذة هذه المدارس بحوالي 30 ألف تلميذ بين صبي
    وفتاة.

    1936- كان ابن باديس أول من أطلق الدعوة إلى عقد المؤتمر
    الإسلامي الجزائري الذي برز فيه توجه جمعية العلماء نحو المشاركة السياسية،
    وفيه دعا إلى ضرورة تحديد النظام السياسي للمسلمين في الجزائر. وفي السنة
    نفسها شارك ابن باديس مع الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الطيب العقبي مع
    نخبة من السياسيين الجزائريين في الوفد الجزائري الذي زار باريس للتفاوض
    باسم الشعب الجزائري مع الحكومة الفرنسية.

    1939- استمرت "الشهاب"
    حتى هذا العام حيث أوقفها ابن باديس بنفسه عشية إعلان الحرب العالمية
    الثانية لأنه رفض لها أن تكون أداة في يد الإدارة الفرنسية التي وضعت الصحف
    تحت إشرافها المباشر بموجب قوانين الحرب.

    16 أفريل 1940- توفي
    الشيخ عبد الحميد ابن باديس في مسقط رأسه بقسنطينة عن عمر يناهز 51 عاما.
    وقد اعتمد هذا التاريخ رسميا بعد الاستقلال ليصبح مناسبة وطنية رسمية سميت
    بـ "يوم العلم" احتفاء بابن باديس رائد النهضة العلمية والإصلاحية في
    الجزائر.






    ملخص سيرة الإمام عبد الحميد بن باديس


    ولد
    الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1889 بقسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، أو
    كما كانت تسمى في عهده العاصمة العلمية، فتربى بها وترعرع وتعلم بكتاتيبها،
    ثم انتقل إلى تونس حيث أكمل تعليمه بالزيتونة التي تخرج منها سنة 1911،
    ومذ ذلك التاريخ أخذ الشيخ على عاتقه العمل الدعوي والإصلاح الاجتماعي
    والنضال الوطني، كغاية له في هذه الذنيا، فسلمها كل وقته وإمكانياته، وقد
    عبر عن ذلك بعنوان لمحاضرة له ألقاها مفتتحا لها بقوله "لمن أعيش؟" وأجاب
    عن السؤال "أعيش للإسلام وللجزائر"، ثم ذهب يفصل في كيفية العيش للإسلام
    وللجزائر.

    في سنة 1913 سافر إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج،
    ليلتقي هناك بصديقه ورفيق دربه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ويناقشا معا
    كيفية القيام بعمل جماعي للنهوض بالأمة التي أنهكها الظلم الإستعماري، وفتك
    بها الجهل والأمية والطرق الصوفية المنحرفة... وبعد عودته من الحج، شرع في
    التدريس بالجمع الأخضر، لعلوم الوحي واللغة العربية، وبث التي تعد لغة ضرة
    يمنع تدريسها، فهي في عرف الإستعمار لغة أجنبية.

    وفي سنة 1924 كان
    قد عاد جمع من الشيوخ من المشرق الإسلامي. فقد عاد الشيخ الطيب العقبي من
    الحجاز وأقام بسيدي عقبة، وأسس جريدة الإصلاح، وعاد الشيخ البشير وأقام
    بسطيف، وعاد العربي التبسي من القاهرة حيث كان يدرس بالأزهر ليقيم بتبسة..
    وفي هذه السنة عادت فكرة تنظيم العمل ولم شمل الجهود، فكانت التسمية
    المقترحة من طرف الشيخ باديس التي تقدم بها لأخيه البشير "جمعية الإخاء
    العلمي" وطلب منه وضع قانون أساسي لها، ولكن الأمور تعطلت لأسباب نجهلها..
    وفي نفس الوقت، أسس جريدته الأولى "المنتقد" وهي جريدة ناقدة، حادة في
    أسلوب نقدها، شعارها "انتقد ولا تعتقد" ردا على الصوفية المنحرفة التي كانت
    تلقن مريديها أن يكونوا بين أيدي الشيوخ كالميت بين يدي الغسال...، ثم
    تعطلت بسبب حدة طروحاتها، حيث لم تعمر ولم يصدر منها غير 18 عددا، ثم
    استبدلت بجريدة "الشهاب" التي كان شعارها الإصلاحي "لا يصلح آخر هذه الأمة
    إلا بما صلح به أولها"، أما في الشق السياسي فقد كان الشعار "جميع الحقوق
    لمن قاموا بكل الواجبات".

    في سنة 1931 تأسست جمعية العلماء المسلمين
    الجزائريين، وانتخب رئيسا لها في غيابه، فقاد الجمعية برضا الجميع؛ بل
    يعود له الفضل الكبير في تنوير الرأي العام وإنضاجه إلى المستوى الذي آل
    إليه عشية تأسيس الجمعية، حيث كان جل شيوخ الجمعية ومؤسسيها من تلاميذه
    بالجامع الأخضر، وإخوانه القادمين من الزيتونة والحجاز والأزهر.

    ورغم
    أن رئاسته للجمعية قد استمرت إلى أن توفاه الله سنة 1940، فإن مجلة الشهاب
    لم تتوقف، وبقيت تصدر باسمه، إلى جانب منشورات الجمعية –الصراط، السنة،
    الشريعة وأخيرا البصائر-.

    في سنة 1936 دعا الشيخ ابن باديس إلى عقد
    المؤتمر الإسلامي، الذي جمع كل التيارات السياسية والإصلاحية في البلاد،
    وشكل وفد ليحمل مطالب الجزائريين للسلطات الفرنسية، ولكن العجرفة
    الإستعمارية ردته خائبا، فعاد ابن باديس من فرنسا، وغير شعار "شهابه" الذي
    كان "جميع الحقوق لمن قاموا بكل الواجبات" ليصبح "فلنعتمد على أنفسنا ونتكل
    على الله"؛ لأنه شعر بتهديد مبطن من طرف وزير الحرب الإستعماري الذي قال
    له "عندنا المدافع" فرد الشيخ عليه قائلا "ونحن عندنا مدافع الله".

    في
    سنة 1939 طلبت منه فرنسا أن يبعث برسالة تأييد لفرنسا في دخولها الحرب
    الأوروبية الثانية، و بهذه المناسبة قال قولته الشهيرة "لو قالت لي فرنسا
    قل لا إله إلا الله ما قلتها". فتعطلت نشاطات الجمعية، ولم تمض إلا سنة
    واحدة لتفقد الجمعية رئيسها أيضا ويعتقل الكثير من رجالها، ولن تعود إلى
    النشاط إلا بعد الحرب... ...وقد لفظ الشيخ عبد الحميد بن باديس أنفاسه
    الأخيرة رحمة الله عليه في ليلة الثلاثاء الثامن من ربيع الأول سنة 1359 هـ
    الموافق لـ 16 أبريل 1940 م في مسقط رأسه بمدينة قسنطينة، التي اتخذها في
    حياته مركزا لنشاطه التربوي، والإصلاحي، والسياسي، والصحاف

    المجتمع الجزائري في عصر ابن باديس


    إن
    البربر شعوب متعددة القبائل، تنتهي في رأي النسابة إلى جذرين أصليين:
    (البرانس) و(البتر)، وينتهي البرانس والبتر معًا إلى (مازيغ ابن كنعان، من
    نسل حام بن نوح، عليه السلام، ويذكر ابن خلدون أنهم -البربر- من بني برّ بن
    قيس بن عيلان، وهي قبيلة مضرية، فهم إذن ساميون عرب، وكان دينهم دين
    المجوسية.

    ومع وصول قوافل العرب الفاتحين في القرن الأول الهجري،
    بدأ المغاربة يدخلون في دين الله أفواجًا، وكان لهؤلاء الفاتحين الأوائل،
    أمثال عقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، دور عظيم في نشر الإسلام في تلك
    الربوع، (كما ترك موسى بن نصير سبعة عشر فقيهًا بالمغرب، وأرســل عمـر بن
    عبد العزيز رضي الله عنه بعثة إلى المغرب تضم عشرة من فقهاء التابعين).

    وقد ثبت الأمازيغ على عقيدة الإسلام بعد فترة قصيرة من الزمن، فما كاد ينتهي القرن الأول إلا وهم ثابتون على عقيدة الإسلام.

    وما
    الجهـود التي قدمها (البربـر) في فتح الأندلس بقيـادة طـارق ابن زياد
    البربري، إلا دليل على وجود مد إسلامي قوي بينهم. وامتزج العرب والبربر مع
    مرّ القرون، وتكوّن منهم جنس، أُمُّهُ الجزائر وأَبُوهُ الإسلام، كما يحلو
    للإمام ابن باديس أن يصفهم، إذ يقول: (إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ، وحّد
    بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنًا، ثم دأبت تلك القرون تمزج بينهم في الشدة
    والرخاء، حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرًا مسلمًا جزائريًا، أمّه
    الجزائر وأبوه الإسلام).

    وقد أقبل البربر على دين الله، وتشرّبوا
    وأُشربوا حُبه، وتثقفوا بثقافته، وتحصنوا بعقيدته، فأصبحوا ركنًا من أركانه
    يذودون عنه باللسان والقلم والسيف.

    واليوم لا يمكن التمييز بين
    هاتين الطائفتين أبدًا، فلا طرائق المعيشة ولا اللغة يمكن أن يستخلص منها
    أساس لمثل هذا التمييز، ناهيك عن عقيدة التوحيد التي ألّفت بين قلوبهم.

    ولقد
    اتضحت آيات اتحادهم جلية، وبرهن الشعب الجزائري في أحلك الأوقات أنه شعب
    واحد، لا يرضى بغير الإسلام دينًا، فهبّ منذ وطئت أقدام المستعمر بلاده
    يقاوم ويحارب جحافل الغزاة.

    وعلى الرغم من أهمية الإحاطة بالحالات
    الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الجزائري، التي مهدت لظهور
    الحركة الإصلاحية، إلا أننا سوف نركّز على الحالة الثقافية والفكرية، لأنها
    الصورة الأكثر دقة وتعبيرًا عن الواقع بكل أبعاده تقريبًا.

    نشأته


    نشأ
    "عبد الحميد" في أحضان أسرة عريقة في العلم والجاه، وفي بيتها الكريم
    ترعرع معززا مكرما، لا ينقصه شيء من متاع الحياة الدنيا، وكان أبوه حريصا
    على أن يربيه تربية إسلامية خاصة؛ فلم يُدخله المدارس الفرنسية كبقية أبناء
    العائلات المشهورة، بل أرسل به للكتاب القرآني ككل الأطفال بالطريقة
    المألوفة المعروفة وهو في الخامسة من عمره، فحفظ القرآن وتجويده على يد
    الشيخ المقرئ محمد بن المدَّاسي وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة، ونشأ
    منذ صباه في رحاب القرآن فشب على حبه والتخلُّق بأخلاقه. ولشدة إعجابه
    بجودة حفظه، وحسن سلوكه، قدمه ليصلي بالناس التراويح في رمضان بالجامع
    الكبير وعمره إحدى عشر سنة ليتعود على تحمل المسئولية، وقبله المصلون رغم
    صغر سنه وبقي يؤمهم ثلاثة أعوام.

    تلقى مبادئ العلوم العربية
    والإسلامية بجامع سيدي محمد النجار على مشائخ من أشهرهم العالم الجليل
    الشيخ "أحمد أبو حمدان الونيسي" ابتداء من عام 1903 الذي حبب إليه العلم،
    ووجهه الوجهة المثلى فيه، وهو من أوائل الشيوخ الذين لهم أثر طيب في اتجاهه
    الديني.

    و في سنة 1908 عزم أستاذه الشيخ "الونيسي" على الهجرة إلى
    المشرق العربي حين ذاق ذرعا بالحياة تحت وطأة الحكم الفرنسي الطاغي، و لشدة
    تعلق عبد الحميد بأستاذه قرر السفر معه أو اللحاق به مهاجرا في طلب العلم،
    غير أن آباه لم يوافقه على ذلك ووجهه إلى طلب العلم في تونس.





    حياته الزوجية


    تزوج
    الشيخ عبد الحميد بن باديس في سن مبكرة وهو لا يتجاوز الحادية عشرة من
    عمره حين تم عقد زواجه في 08 مارس 1901م بإحدى قريباته ابنة عمه "اليامنة
    بنت ابن باديس"، ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره دخل بيت الزوجية في حدود
    1904 م. أنجب عبد الحميد بن باديس من هذا الزواج المبكر ولدا سماه
    "إسماعيل"، ظل الابن يدرس عند أبيه "عبد الحميد" حتى حفظ القرآن وقبل أن
    يوجهه أبوه لطلب العلم، توفي في حادث مفاجئ ببندقية صيد في ضيعة جده إذ
    يقال إنه كان يتجوّل بالمزرعة شاهد أحد حراس المزرعة يعلق بندقيته المعبأة
    بالرصاص في جذع شجرة. فحملها إسماعيل بكل براءة وراح يلهو بها فخرجت رصاصة
    قاتلة استقرت بصدر الصغير، وذلك في 19 من رمضان عام 1337هـ الموافق لـ17
    جوان 1919م .

    وهناك بالمدينة الكبيرة كان الشيخ عبد الحميد بن باديس
    يقدم دروسه لتلامذته داخل المسجد عندما تقدم منه أحد أصدقائه وأسرّ له
    الخبر المحزن، فأكمل الدرس حتى نهايته ثم انفرد في زاوية خاصة وراح يُذرف
    الدموع، وتكرر نفس المشهد عندما توفي شقيقه سليم، وكان حينها أيضا في حلقة
    تدريس.

    أما زوجته لم تستمر معه طيلة حياته حيث طلقها عندما طلبت أن
    تقيم وحدها بعيدا عن أسرة والده وكان هو يريد أن يبقيها ضمن أفراد عائلة
    أبيه حتى تتوفر لديه الحرية أكثر في الحركة والنشاط لأنه كان يقضي جل وقته
    في الدرس والخطابة والكتابة خارج البيت وبدخوله عالم الدعوة لم يعد يزور
    البيت إلا نادرا، مما أثار حفيظة الزوجة التي غادرت بيت أهل بن باديس،
    وعندما رجع ولم يجدها رفض رغم إلحاح والده الذهاب لإحضارها. وانتظر عدة
    أيام وعندما تأكد من عدم رجوعها للبيت لفظ كلمة الطلاق ورفض العودة عن
    قراره رغم محاولات أهل الزوجين وأكثر من ذلك رفض الزواج ثانية.
    sami

    مُساهمة الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 9:27 am من طرف sami

    تعليمه بجامع الزيتونة


    نظرا
    لما كان يبدو على "عبد الحميد" من فطنة و نباهة وميل إلى الجد في فترة
    التعلم التي سبقت ذهابه إلى تونس حرس أبوه على إرساله إلى جامع الزيتونة
    ليكمل تعليمه ويوسع معارفه، فسافر إلى تونس في نفس العام الذي هاجر فيه
    أستاذه "الونيسي" (1908 م) إلى المشرق تاركا الزوجة والولد في كفالة
    والديه، وسنه إذ ذاك تسعة عشرة عاما. وبعد ثلاث سنوات من الجد والاجتهاد
    تحصل على شهادة التطويع (كما كانت تدعى حين ذاك) عام 1911 م وقد نجح في
    امتحان التخرج نجاحا باهرا، إذ حصل على الرتبة الأولى ضمن قائمة جميع
    الناجحين في تلك الدورة، و كان الطالب الجزائري الوحيد الذي تخرج في دفعة
    تلك السنة من الجامع المعمور وذلك بناء على وجوده في رأس قائمة الناجحين
    التي نشرتها جريدة "المشير" التونسية، وأقام أثناء دراسته بمدرسة "النخلة"
    الكائنة بنهج الكتيبة رقم 11 قرب جامع الزيتونة، وكان يسكن بها أحد شيوخه
    وهو المرحوم "سعد السطيفي" وبقي بعد التخرج سنة أخرى يُدرس ويَدرس على عادة
    المتخرجين في ذلك العهد.

    والملفت للانتباه أن نظام الدراسة في
    الزيتونة قبل السنة التي التحق فيها "عبد الحميد" (1908 م) أن المّدة التي
    يقضيها الطالب لنيل أعلى شهادة هي سبع سنوات، ولكن يسمح للطالب المتمكن –
    بعد إجراء امتحان له – أن يتجاوز سنوات ويوضع في الصف الذي يؤهله له هذا
    الامتحان، غير أنه في السنة التي سافر فيها "عبد الحميد" ألغي هذا النظام،
    فأدى ذلك إلى إثارة طلاب الزيتونة، فتراجعت إدارة الجامع عن المرسوم،
    وأجّلت تطبيقه إلى السنة الموالية مما أتاح لعبد الحميد فرصة الالتحاق
    بالسنة الخامسة – بعد أن أجري له امتحان – فلم يدرس في جامع الزيتونة إلا
    ثلاث سنوات نال بمقتضاها الشهادة والسنة الرابعة قضاها مدرسا.

    وهناك
    في تونس خلال المدة التي قضاها في التعلم تعرف على كبار العلماء، وأخذ
    عنهم الثقافة العربية الإسلامية وأساليب البحث في التاريخ والحياة
    الاجتماعية، من أمثال الشيوخ : محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام الذي درس
    عليه ديوان الحماسة للبحتري، والعلامة الصدر محمد النخلي القيرواني الذي
    درس عليه التفسير، والعلامة الخضر بن الحسين الطولقي الجزائري التونسي الذي
    تلقى عليه المنطق وقرأ عليه كتاب التهذيب فيه، ومحمد بلحسين النجار بن
    الشيخ المفتي محمد النجار والشيخ محمد الصادق النيفر قاضي الجماعة الذي أخذ
    على يده الفقه، والبشير صفر ألمع المؤرخين والمصلحين التونسيين في القرن
    العشرين، وكان لكل واحد من هؤلاء تأثير خاص في جانب من جوانب شخصية ابن
    باديس، وقد عرف ابن باديس أثناء دراسته في الزيتونة بالنشاط، وكان يتميز
    بحب الاطلاع الواسع، كما يبدو من خلال اتصالاته ببعض العلماء خارج الزيتونة
    حيث كان يحضر بعض الدروس غير المقررة في برنامج الزيتونة فهو يخبرنا إنه
    حضر على الشيخ "خضر بن الحسين" دروسه في تفسير البيضاوي في داره بباب منارة
    في تونس.

    فقد تأثر كثيرا ببعض المشايخ الذين وجد في آرائهم
    وأفكارهم وأساليب تعليمهم ما يلائم طبعه وتطلعه، و ميله إلى الاجتهاد
    واستعمال العقل، مثل الشيخ محمد النخلي القيرواني الذي كان دائما يذكره
    ويثني على منهجه في التدريس، كما تأثر ببعض الأفكار الإصلاحية التي بدأت
    تروج في تونس بعد زيارة محمد عبده لها.




    عودته من تونس


    عاد
    الشاب "عبد الحميد" إلى بلاده يحمل شهادة التطويع (العالمية) فاستقبله
    أبوه في محطة القطار كما يستقبل العلماء والأعيان، كان مغتبطا أشد الاغتباط
    بنجاحه وبعودته، ولما انتهيا إلى المنزل صاح الأب بأم البنين آن لك أن
    تزغردي يا أم عبد الحميد فقد عاد ابنك عالما ليرفع من قيمة عائلته وأمته،
    ويزيدهما مجدا وشرفا، فأطلقتها الأم زغرودة عالية دوت أصداؤها في أرجاء
    البيت الفسيح، وقد أثر هذا الاستقبال في "عبد الحميد" أيما تأثير، فقد ظل
    يذكره بكثير من الاعتزاز... فقد حدث طلابه ذات يوم (في أواسط الثلاثينات)
    عن ذلك الاستقبال... واستشهد على ذلك بشواهد منها تقدير أبيه له، وفرحة أمه
    والزغرودة التي عبرت بها عن هذه الفرحة والتي كانت تعبيرا صادقا عن فرحة
    العائلة، " إن تلك الزغرودة التي قابلتني بها أمي يوم عدت من تونس ما تزال
    ترن في أذني، ولن أنساها ما حييت".

    بعد ذلك بدأ "عبد الحميد" نشاطه
    بالتفرغ للتعليم المسجدي في الجامع الكبير بقسنطينة، فباشر بعقد حلقات
    دراسية مثل التي شهدها في تونس وإلقاء دروس لبعض الطلبة من كتاب "الشفاء"
    للقاضي عياض، أما العامة فكان يقدم لهم دروسا في الوعظ والإرشاد، غير أن
    مدّة تعليمه في الجامع الكبير لم تظل، لأن مفتى المدينة الشيخ "المولد بن
    الموهوب" الإمام الخطيب بهذا الجامع، منعه من مواصلة التدريس، بحجة أنه لا
    يملك إذنا بذلك، والحقيقة أن الشاب عبد الحميد رُخِّص له في ذلك، فقد اتصل
    والده بوالي عمالة قسنطينة، وسعى له في الحصول على إذن بالتدريس في الجامع
    الكبير، فأذن له ولكنه إذن شفوي، ولما شرع الشاب في التدريس اعتبر الشيخ بن
    الموهوب هذا العمل اعتداء على سلطته، لأنه لم يُستشر في ذلك، واعتبره
    تدخلا سافرا فيما هو من اختصاصه، لأن والد الشاب حتى وان كان نائبا ساميا
    في عدة دوائر انتخابية ومالية على مستوى البلدية والعمالة والوطن، وله
    مكانته، إلا أنه رجل سياسة لا دخل له في أمور الدين، هذا الأمر أثار حساسية
    ابن الموهوب، ومن هنا بدأت المواجهة بينه وبين المعلم الشاب، الذي لم يكن
    هدفه سوى نشر المعرفة وخدمة بلاده، فكانت دروسه ثورة على البدع والخرافات
    ونبذ العصبيات مما حرك عقول الناس وكان عاملا على تنبيههم من حالة الاحتلال
    والجهل، فسعى الشيخ المفتي في منع المدرس الشاب من التدريس بل تمادى، فكلف
    المفتي من يشوش عليه، ويطفئ المصابيح وقت الدرس، ولكن الشاب عبد الحميد لم
    يستسلم، وكلف طلابه أن يحضروا الشموع ليدرسوا تحت ضوئها، وقابل المفتي
    عناد هذا الشاب المدرس بتصرف آخر، فأمر أحد اتباعه "الحاج القريشي" بالتصدي
    له ومنعه، فجاء وأطبق دفتي الكتاب أمام المدرس عبد الحميد، وأطفأ الشموع،
    وكادت تقع فتنة بينه وبين الطلاب، داخل المسجد ولكن المعلم المؤدب أخمد
    الفتنة وهدّأ طلابه، فصرفهم وأمرهم بترك الجامع والدرس.

    تأثر الفتى
    عبد الحميد لمعاملة مفتي المدينة وحامي حمى الإسلام فيها، ولم تمضِ سوى مدة
    قصيرة حتى عزم على أداء فريضة الحج، ففاتح أباه في الموضع وأبدى رغبته في
    الذهاب إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج، فقبل والده ووافقه، وهيأ له
    الأسباب التي تمكنه من تحقيق هذه الرغبة.




    رحلته إلى الحجاز و بعض العواصم العربية


    منّ
    اللَّه على عبد الحميد أداء فريضة الحج عام 1331هـ = سبتمبر 1913م. وبعد
    أداء مناسك الحج والعمرة زار المدينة المنورة وأقام بها، وفي أثناء إقامته
    بها لقي أستاذه الأول الذي درس عليه في قسنطينة "الشيخ الونيسي" الذي هاجر
    إلى المدينة المنورة وأقام بها، وتعرف على بعض العلماء ومن رفقاء أستاذه
    مثل : الشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، والشيخ الوزير التونسي، وألقى
    بحضورهم درسا في الحرم النبوي الشريف، فأعجبوا به إعجابا شديدا مما لفت
    الأنظار إليه. وفي هذه الأثناء أبدى رغبته في البقاء بالمدينة إلى جوار
    أستاذه (الونيسي) فرحب الأستاذ بهذه الفكرة ورغبه فيها، لما يعرف من أوضاع
    بلده. لكن الشيخ حسين أحمد الهندي لم يوافقه على ذلك، بل نصحه بضرورة
    العودة إلى وطنه لخدمة بلاده ومحاولة إنقاذها مما هي فيه، بما توسم فيه من
    حزم وعزم وصلاح، فاقتنع الشاب عبد الحميد بوجهة نظر هذا الشيخ، وقبل نصيحته
    وقرر الرجوع إلى الوطن، عند ذاك حذره أستاذه "الونيسي" من أن يكون عبدا
    للوظيفة، لأنه تأكد أن الحكومة ستعرض عليه الوظائف، قال له "أحذر أن تقبل
    الوظيفة الحكومية، فهي قيد لك، يحدّ من نشاطك... وأخذ عليه عهدا أن لا يقبل
    الوظيفة، ولا الوظيفة، ولا يتخذ علمه سلما للأغراض المادية والأطماع
    الدنيوية، فعاهده تلميذه على ذلك، ووفى بهذا العهد" .

    وقد حرص "عبد
    الحميد" في هذه الرحلة على الاتصال بالمفكرين والعلماء للتحاور معهم
    والاطلاع على أحوال المسلمين ومقارنتها بأحوال بلاده، ودفعه هذا الاتصال
    إلى التفاعل مع الحركة الإصلاحية التي انتشرت على يد الإمام محمد عبده و
    تلميذه رشيد رضا، متأثرين بزعيم المصلحين جمال الدين الأفغاني وبالحركة
    السلفية التي انتشرت في الحجاز، وخلال الفترة التي قضاها في المدينة
    المنورة تعرف إلى شاب جزائري في مثل سنه عالم وأديب، هو الشيخ "محمد البشير
    الإبراهيمي" المقيم مع والديه في المدينة، أقام معه مدة تعارفا فيها
    وتحاورا معا في شأن الخطة الإصلاحية التي يجب أن تضبط لعلاج الأوضاع
    المتردية في الجزائر، واتفقا على خدمة بلادهما متى عادا إليها . وقد ذكر
    الشيخ البشير الإبراهيمي أنهما لم يفترقا طيلة الأشهر الثلاثة التي قضاها
    ابن باديس بالمدينة، فكانا يقضيان الليل كله يحللان أوضاع الجزائر، ويحددان
    شروط ووسائل نهضتها". ولم يكن أيّ منهما يدري أن هذا اللقاء الذي تم خارج
    الوطن ستكون له ثمار طيبة وسيصبح هذا العالم الشاب المهاجر إلى المدينة
    رفيق دربه في الكفاح و النضال بعد الرجوع إلى الوطن في العشرينات.

    وفي
    طريق عودته من الحجاز عرّج على الشام (دمشق وبيروت) وزار المسجد الأقصى
    وتوقف بمصر ولقي في الإسكندرية كبير علمائها الشيخ أبا الفضل الجيزاوي الذي
    أصبح من بعد شيخا للأزهر، فتعارفا وتذاكرا وأجازه، وفي القاهرة لقي مفتي
    الديار المصرية الشيخ "محمد بخيث المطيعي" رفيق محمد عبده، والمدافع عن
    فكرته بعد وفاته، وكان الشاب عبد الحميد يحمل للشيخ رسالة من أستاذه
    الونيسي فأحسن استقباله، ودعاه إلى زيارته في منزله بحلوان القريبة من
    القاهرة. وبعد تعرف الشيخ على الشاب جيدا أجازه هو أيضا. هكذا استطاع أن
    يلم بأطراف من العالم العربي، ليعرف ما فيه، زيادة عما كان يعرفه في
    الجزائر وتونس.






    العودة للوطن والشروع في الإصلاح


    آمن
    ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو التعليم، وهي
    الدعوة التي حمل لواءها الشيخ محمد عبده، في مطلع القرن الرابع عشر الهجري،
    وأذاعها في تونس والجزائر خلال زيارته لهما سنة (1321هـ= 1903م)، فعمل ابن
    باديس على نشر التعليم، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة
    الزيف والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر.

    وبمجرد
    أن عاد إلى بلده شرع على الفور في تنفيذ خطوات المشروع المتكامل الذي كان
    قد بدأه قبل سفره إلى الحجاز والذي يرتكز على العمل الإصلاحي من خلال نشر
    التعليم وتربية الأجيال، وحتى لا يتكرر ما حدث بينه وبين الشيخ ابن
    الموهوب، استصدر له أبوه رخصة رسمية من والي عمالة قسنطينة تسمح له بأن
    يدرس بالمجّان في (الجامع الأخضر) أحد المساجد الثلاثة الجامعة في المدينة
    التي تشرف عليها الحكومة.

    وهكذا بدأ التدريس هذه المرة وفي يديه إذن
    قانوني، يخوّل له ذلك، فنظّم دروسا لعامة الناس، وأخرى خاصة بالطلبة
    الوافدين يلقى بعضها في الجامع الأخضر وبعضها في مسجد سيدي قموش، لا يتقاضى
    على عمله من الحكومة ولا غيرها أجرا. وكان من دروسه العامة تفسير القرآن،
    ظل يلقيه حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في
    13 من ربيع الثاني 1357هـ/ 12 جوان 1938م. والحديث النبوي الشريف من الموطأ
    حتى ختمه في أواسط ربيع الثاني عام 1358هـ /جوان 1939م).. أما الدروس
    الموجهة للطلبة فتختلف حسب مستوى كل طبقة، ويركز فيها على العلوم الدينية
    واللغوية والتاريخ الإسلامي والتوحيد والمنطق وغير ذلك من العلوم التي تدخل
    في تكوين الطالب.

    ويُعدّ الجانب التعليمي والتربوي من أبرز مساهمات
    ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار الذي بلغوا سن
    التعلم، ولم يجدوا مكانا لهم في المدارس الحكومية، أو الذين يدرسون في هذه
    المدارس ولكنهم بحاجة إلى تعلم لغتهم ومعرفة دينهم وتاريخهم، فأسس سنة 1926
    م أول نواة للتعليم الابتدائي الحر "مكتب" (مرادف للفظة الكتّاب) أي
    مدرسة، رفقة جماعة من الفضلاء السيد العربي والسيد عمر بن مغسولة، حيث
    اشتريا مسجد سيدي بومعزة، والبناء المتصل به، وكان فوق بيت الصلاة محل
    للسكنى بالكراء فأزالاه عن ذلك، وأبقياه محلا فارغا، فجعل محل "المكتب"،
    وأطلق عليه اسم "المكتب العربي"، وأسند إدارته إلى أحد طلاب "ابن باديس"
    الأوائل هو الشيخ "مبارك الميلي" بعد تخرجه من جامع الزيتونة، ثم انتقل إلى
    بناية الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة 1336هـ/1917م لاتساعها...
    وفي سنة 1349هـ/1930 م ثم تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم
    الإسلامية، وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن
    باديس. وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية
    والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ويجدر بالذكر أن
    قانون الجمعية نصّ على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات التعليم، في حين
    يتعلم البنات كلهن مجانًا.

    وكوّن ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء
    جمعية التربية والتعليم الإسلامية، للعناية بالطلبة ومراقبة سيرهم،
    والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، ودعا الجزائريين إلى تأسيس
    مثل هذه الجمعية، أو تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر. وقد اثرت هذه الجهود
    التي انطلقت في مجال التعليم المدرسي الحّر بقسنطينة في بعض الجهات الأخرى
    فقام المخلصون فيها بإنشاء مدارس للتعليم القومي في تلك الفترة ومن اشهر
    هذه المدارس التي أدت دورا مهما (مدرسة الشبيبة الإسلامية بمدينة الجزائر)
    من عام 1927 إلى أن استولت عليها الإدارة الاستعمارية، وحثّ ابن باديس
    الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، وتكوينها على
    أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد، فقد خصها بدروس في
    مدرسة التربية والتعليم مرّة في الأسبوع طيلة خمس سنوات الأخيرة من حياته،
    كما قام بترغيب زملائه العلماء أن يقوموا بمثل ذلك في مدنهم وقراهم، فساروا
    على نهجه. ولما امتلأت المدارس بالبنات، وأتممن تعلمهن بالمرحلة
    الابتدائية، هيأ لهن الشيخ ابن باديس الطريق إلى المشرق العربي وبالضبط إلى
    سوريا سنة 1939 م ليتممن تعليمهن الثانوي والعالي بمدرسة "دوحة الأدب" لكن
    لم يكتب لهذه الخطوة النجاح بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية صيف هذه
    السنة، ثم عاجلت المنية، فتعطل المشروع تماما. أما البنين فقد قسموا إلى
    أربع طبقات حسب مستوياتهم، والذين ينهون دراستهم عنده يوجه القادرين منهم
    لإتمام دراستهم في تونس بجامع الزيتونة، وكان من طلائع طلابه النبغاء :
    مبارك الميلي والسعيد الزاهري، والهادي السنوسي، ومحمد بن العابد والسعيد
    الزموشي، وابن عتيق، والفضيل الورتلاني، وآخرون كثيرون منهم من اكتفى بما
    تعلمه عليه، ومنهم من واصل دراسته في الزيتونة حتى شهادة التطويع.

    لم
    يكتفي "عبد الحميد بن باديس" بالدروس التي كان يقدمها أو يشرف عليها، بل
    كان يقوم في العطلة الصيفية، وفي أيام الراحة الأسبوعية بجولات استطلاعية
    في القطر يتعرف فيها على أحوال البلاد والعباد، ويلقى الدروس في المساجد،
    وحيثما تيسر له، ويعلن عن نشاطه التربوي، وعن الدروس العلمية التي يتلقاها
    الطلبة في قسنطينة حتى يبين الفائدة المرجوة منها لمن يشاء الالتحاق بها،
    ويطلب من شيوخ الزوايا الذين يحضرون دروسه ومحاضراته أن يرسلوا أبناءهم
    وطلابهم للتعلم عليه في قسنطينة، هكذا وبهذا الأسلوب الإعلامي تنامى عدد
    طلابه من مختلف جهات الوطن، وخاصة عمالة قسنطينة، وأصبحوا يفدون على الجامع
    الأخضر، وعلى دروس الشيخ في مختلف المواد.

    كما شارك ابن باديس في
    محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى لجنة وضع
    مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس سنة (1350 هـ/1931م)، وتضمن اقتراحه
    خلاصة آرائه في التربية والتعليم، فشمل المواد التي يجب أن يدرسها الملتحق
    بالجامع، من اللغة والأدب، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والحديث،
    والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ الطبيعة والفلك، والهندسة، وجعل
    الدراسة في الزيتونة تتم على مرحلتين: الأولى تسمى قسم المشاركة، وتستغرق
    الدراسة فيه ثماني سنوات، وقسم التخصص ومدته سنتان، ويضم ثلاثة أفرع: فرع
    للقضاء والفتوى، وفرع للخطاب والوعظ، وفرع لتخريج الأساتذة.

    تفكير الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس



    لا نريد الخوض في حقيقة تفكير ابن باديس : أهو تفكير ذو طابع ديني أم هو تفكير سياسي، أم تفكير فلسفي...؟

    أيا كانت الإجابة فالمعروف عن ابن باديس أنه عالم ديني، ومصلح اجتماعي ومفكر سياسي، و أستاذ مرب، وكاتب مجيد، وصحافي قدير.

    ومن
    الكتاب من يعتبره إلى جانب ذلك فيلسوفا، ومنهم من لا يريد أن ينسبه إلى
    الفلسفة باعتبار الفلسفة بناء فكريا نظريا، نتائجه ظنية احتمالية، ولأن
    البحث الفلسفي ينطلق من تصورات مجردة، ويقوم على الجدل العقلي الذي ليست له
    غاية نفعية يستفيد منها عموم الناس، وفلسفة بهذا المفهوم لا تنسجم مع
    طبيعة ابن باديس، ولا مع تفكيره العملي.

    ولهذا لا نستطيع أن نصفه
    ضمن قائمة الفلاسفة الذين كرسوا حياتهم وأبحاثهم للخوض في المسائل الفلسفية
    التجريدية، التي لا تنزل إلى واقع الناس، ولا تعالج مشكلاتهم ولا نستطيع
    كذلك أن نجرده من التفكير الفلسفي الذي يتناسب مع روحه الدينية و اتجاهه
    الوطني، وبرنامجه الإصلاحي، وانشغلاته السياسية والاجتماعية .

    الجانب الفلسفي في تفكير ابن باديس


    السمات المميزة لتفكير ابن باديس


    ابن باديس الفقهيه المجتهد


    التفكير التربوي للإمام عبد الحميد بن باديس

    نظرة إبن باديس إلى الإنسان

    المعرفة والعلم في نظر ابن باديس



    ابن باديس وتعليم المرأة


    العمل الجماعي في نظر ابن باديس







    الجانب الفلسفي في تفكير ابن باديس


    و
    من هنا يمكننا القول إن الفلسفة التي نستطيع أن ننسبها إلى ابن باديس ليست
    الفلسفة التي يجنح فيها العقل إلى التصورات المجردة، والتأملات الحاملة،
    والمسائل النظرية البحتة، التي لا تتصل بواقع مجتمعه ولا تسهم في حل مشكلا ت
    واقع هدا المجتمع، وإنما الفلفسة التيس نستطيع أن ننسبها إليه، ونجعلها
    جانبا من تفكيره هي الفلسفة العملية، التي يستطيع أن يترجمها الإنسان إلى
    واقع الحياة، و يعيش حقائقه؛ الفلفسة التي يتطابق فيها القول مع الفعل،و
    الاعتقاد مع السلوك ،و يتكامل فيها التصور النظري مع الممارسات العملية،
    الفلسفة التي تبحث في الحقائق التي يعيشها الإنسان، ويكون منطلقها واقع
    المجتمع، وأساسها روح الإسلام وأصوله، وغايتها تحرير المجتمع من كل أشكال
    الظلم والتخلف والتسيب، والتي تستهدف في مناهجها إعادة تشكيل الشخصية
    الجزائرية، التي أصبها الوهم، نتيجة ظروف الانحطاط، وسياسة الاستعمار .

    إن
    الفلسفة التي تطبع تفكير ابن باديس فلسفة واقعية تنبع من تفكير إنسان واع،
    مرتبط بوطنه، وملتزم بحقائق دينه، مستوعب أسباب معناة بلاده، متطلع إلى
    معايشة عصره، فلسفة تلح على تمتين الصلة بين الفكر والعمل، والمزواجة بين
    النظرية والتطبيق، هده بعض سمات التفكير الباديسي، إن سمات تمتزج فيها
    الجوانب الدينية والسياسية، والأخلاقية والعلمية والوجدانية والعقلية، ولكن
    السمة البارزة في هدا التفكير هي السمة الدينية المطعمة بالنزعة العقلية ،
    باعتبار العقل " ميزة الإنسان و أداة عمله " كما يقول ابن باديس، والعقل
    من ناحية أخرى هو القوى الروحية التي بها يكون التفكير والنظر

    وتجدر
    الإشارة إىل الطابع المميز لتفكير ابن باديس تجسده آراؤه وأفكاره ومواقفه،
    التي صار عليها في حياته ،و بنى على أساسها مشاريعه الاصلاحية،و شكل منها
    منهجا اعتمده في معالجة أوضاع مجتمعه و برنامجه التعليمي، و هي كما نرى
    فلسفة عملية أكثر منها نظرية، لأنها لا تنظر إلى السماء بقدر ما تنظر إلى
    الأرض و تعالج الأمور التي استحودت على تفكير الإنسان بمنطق الواقعية
    ،لأنها فلسفة تستمد روحها من روح الإسلام وأصوله ،و تجعل هدفها تجسيد هذه
    الأصول و تقريبها من الناس، و الاستفادة منها، وتصحيح المفاهيم،
    والاعتقادات، وتهديب السلوك الفردي والاجتماعي، ودفع الناس إلى الإسهام في
    تغيير واقعهم، وتحسين ظروفهم، ليكونوا أهلا للاستخلاف الذي استخلفه الله في
    أرضه.




    السمات المميزة لتفكير ابن باديس


    إن
    المتتبع لأراء ابن باديس في الدين و السياسة و الأخلاق و العلم و التربية،
    وفي القضايا الوطنية والثقافية التي ترك لنا فيها آثار مكتوبة يجد أنها
    آراء نابعة من فكر إنسان ملتزم بحقائق دينه و تاريخ أمته، ونهج سلفه،
    ومتفاعل مع واقع مجتمعه وحقائق عصره، ومتفتح على أفكار غيره ، حريص على بعث
    يقظة فكرية و سياسية في نفوس الأجيال ، تعيد للأمة عزتها و للعروبة
    والإسلام مجدهما، وللوطن كرامته وحريته، و تبعث في الشباب روح العزم على
    التغيير وإرادة البناء لتخليص الوطن من المحن التي أصابته.

    إن
    القراءة المتمعنة في هذه الآراء تقودنا إلى استخلاص السمات المميزة للتفكير
    الباديسي، تلك السمات التي تبين لنا أن تفكير ابن باديس تفكير عقلاني
    متفتح من جهة، و سلفي ملتزم من جهة ثانية، والسلفية عنده لا تعني تقليدا
    أعمى للأوائل ولا تقديسا للماضي من حيث هو ماض، وإنما تعني اتباعا للنهج
    الذي رسمه الإسلام، وسار عليه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وصحابته
    رضوان الله عليهم النهج الذي اتبعه الأئمة المجتهدون الذين فهموا حقائق
    الإسلام، واستلهموها في اجتهاداتهم وأحكامهم، وفي معالجة الأمور التي طرأت
    على مجتمعاتهم.

    السلفية عنده لا ترفض معايشة العصر، والتفتح على
    علومه، والاستفادة من كل ما يمكن المجتمع من مسايرة الركب الحضاري كما لا
    ترفض الرجوع إلى العقل في معالجة الأمور دون أن يكون في ذلك ما يمس جوهر
    العقيدة و يتضارب مع حقائق الإسلام، وفي هذا الصدد يذكر ابن باديس أنه كان
    في فترة الدراسة متبرما بأساليب المفسرين وإدخالهم التأويلات الجدلية في
    كلام الله... ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، و كانت
    على ذهنه بقية غشاوة من التقاليد ...ثم يقول: و ذكرت يوما الشيخ النخلي
    فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي : أجعل ذهنك مصفاة لهذه
    الأساليب المعقدة، وهذه الأحوال المختلفة، و هذه الآراء المضطربة يسقط
    الساقط ويبقى الصحيح وتستريح .يقول ابن باديس بعد ذلك : فوالله لقد فتح
    بخذخ الكلمة القليلة عن ذهني آفاقا واسعة لا عهد له بها، هكذا زالت الحيرة
    التي كان فيها ابن باديس بعد أن اهتدى إلى طريق اليقين الذي فتح عينيه على
    الطريق الذي ينبغي أن يتبعه المفكر، وهو أن يعتمد عقله دليله في الاهتداء
    إلى التمييز بين الآراء الصحيحة والآراء السقيمة.

    هذا التزاوج في
    تفكير ابن باديس بين التفتح العقلي على الحياة المعاصرة والالتزام بالأصول
    الدينية الصحيحة هو تزاوج مستمد من تفكير إسلامي كما أسلفنا.

    لأن
    التفكير الإسلامي الأصيل يقوم على التوازن والتكامل بين الجوانب العقلية
    التي وظيفتها التدبر والتأمل والاستدلال, وبين الجوانب الروحية الوجدانية
    التي وظيفتها الإيمان والامتثال والالتزام, إذ البحث العقلي واجب الإنسان
    المسلم, وقد شرح ابن رشد هذا التواؤم بين العقل والدين, أو بين الحكمة
    والشريعة في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" وأوضح
    أن ما يؤدي إليه البحث العقلي لا يخالف ما قرره الشرع يقول : "غذا كانت
    الشريعة حقا, وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق, فإن الحق لا يضاد
    الحق, بل يوافقه ويشهد له" وكل ما في الأمر أنه يجب على المفكر الذي يتصدى
    إلى البحث في العقائد وأمور الدين... أن يستوفي شروط البحث من ذكاء الفطرة,
    والعدالة الشرعية... وأن يكون فيما يتعلق بظاهرة الدين الذي يحتاج إلى
    تأويل من أهل التأويل وصياغة البرهان.

    وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية : "المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح".

    هذا
    هو النهج الذي استلهمه ابن باديس في بناء اتجاهه الفلسفي, ومن هنا نتبين
    أن تفكير ابن باديس كما يصفه محمد الميلي كان تفكيرا أصيلا, يجمع إلى
    العقلانية المتحررة الإيمان بالقيم الإسلامية.

    وقد يبدو هذا الاتجاه
    غريبا بالنظر إلى ثقافته التقليدية وقراءاته الدينية, والبيئة العائلية
    المحافظة التي نشأ فيها, لولا أن هناك عوامل أسهمت في بروز هذا الاتجاه,
    وقد أشار الأستاذ محمد الميلي إلى بعضها وهي كما يلي :

    1- معايشة
    ابن باديس الأوساط المحتكة بالتيار الثقافي الغربي, مما جعله يلاحظ عن كثب
    العوامل التي كانت سببا في تفرق الغرب وتقدمه, ولعل هذا هو الذي جعله لا
    يتردد في الدعوة إلى الأخذ بأسباب التقدم وطلب المعرفة بأية لغة, ومن أي
    مصدر.

    2- التأثير المزدوج في ثقافته والذي يرجع إلى دراسته في تونس :
    تأثير التيار العصري التاريخي ممثلا في (الشيخ البشير صفر), أحد مشايخه,
    وتأثير التيار الإسلامي التقليدي الإصلاحي ممثلا في (الشيخ محمد النخلي),
    الذي كان له الفضل في توجيه عقله فيما يقرأ, وزوال الغشاوة التي كانت على
    ذهنه من التقليد.

    3- الآثار التي تركتها أفكار الأفغاني وشكيب
    أرسلان والكواكبي, وغيرهم ممن كان لهم فضل في بعث اليقظة الفكرية في الشرق
    العربي, التي انتقلت آثارها بشكل غير مباشر إلى المغرب العربي, وأثرت في
    علمائه, وفي اتجاهات الغصلاح عندنا.




    ابن باديس الفقهيه المجتهد


    مما
    عرف به ابن باديس أنه فقيه أصولي مجتهد, جامع لشروط الإمامة والفتوى, عالم
    بمذاهب أهل السنة والجماعة, عارف بمقتضيات الحياة, متطلع في المذهب
    المالكي, وفي معرفة أحوال مجتمعه, إذ لم يكن فقيها تقليديا يكتفي بالتعامل
    مع ظاهر النصوص, إنما كان يعمل فكره ويجتهد في تحليل القضايا التي تعرض
    لحياة الناس وفق الظروف التي يعيشونها.

    وله عدة آراء اجتهادية في الدين تتمثل في :

    أولا
    : رأيه في تجنس المسلم بالجنسية الفرنسية : تنص الفتوى بتكفير كل مسلم
    جزائري أو تونسي أو مغربي يتنازل عن قانون الأحوال الشخصية الإسلامية
    باختياره, وبتجنس بالجنسية الفرنسية للتمتع بالحقوق المدنية, قال ابن باديس
    : " ما أكثر ما سئلنا عن هذه المسألة, وطلب منا الجواب في الصحف, ومن
    السائلين رئيس المتجنسين الأستاذ التركي (الذي لم يجد من يفته في تونس)
    وكاتبنا برسالتين, فأدينا الواجب بهذه الفتوى :

    بسم الله الرحمن
    الرحيم, وصلى الله على محمد وآله : التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض
    أحكام الشريعة الإسلامية ومن رفض حكما واحد من أحكام الإسلام عدَّ مرتدا عن
    الإسلام بالإجماع, فالمتجنس مرتد بالإجماع, والمتجنس - بحكم القانون
    الفرنسي - يجري تجنسه على نسله, فيكون قد جنى عليه بإخراجه من حظيرة
    الإسلام, وتلك الجناية من شر الظلم وأقبحه, وإثمها متجدّد عليه ما بقي له
    نسل في الدنيا, خارجا عن شريعة الإسلام بسبب جنايته... والعلم عند الله..."
    خادم العلم وأهله "عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء" - البصائر عدد
    95 بتاريخ 14/01/1938, جمادى الثاني 1356 هـ. نص الفتوى

    ثانيا :
    رأيه في تزوج المسلم الجزائري بالفرنسية : بالرغم من أن الإسلام يبيح
    الزواج بالكتابية فد أفتى ابن باديس بحرمة زواج الجزائري المسلم بالفرنسية,
    وعلل ذلك بكون النتيجة التي تؤدي إليها هذا الزواج هي الخروج عن حظيرة
    الإسلام لأن القانون الفرنسي يقضي بأن أبناءه منها يتبعون جنسية أمهم في
    خروج نسله عن حظيرة الإسلام. فإن كان راضيا بذلك فهو مرتد عن الإسلام, جان
    على أبنائه, ظالم لهم, وإن كان غير راض لهم بذلك وإنما غلبته شهوته على
    الزواج فهو آثم بجايته عليهم, وظلمه لهم, لا يخلصه من إثمه هذا إلا إنقاذهم
    مما أوقعهم فيه.. -البصائر عدد 95 بتاريخ 14/01/1938, جمادى الثاني 1356
    هـ.

    ثالثا : رأيه في دفن ابناء المتجنسين في مقابر المسلمين : سأل
    أحد أهالي (ميشلي) من القبائل الكبري عن أبناء المتجنسين بالجنسية الفرنسية
    هل يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ؟ فكان جواب ابن باديس كما يلي : بعد
    الحمد لله والصلاة والتسليم على النبي وآله : قال : "فابن المطورني, أي
    (المتجنس) إذا كان مكلفا, ولم يُعْلَم منه إنكار ما صنع أبوه والبراءة منه,
    فهو مثل أبيه لا يصلى عليه, ولا يدفن في مقابر المسلمين, وإن كان صغيرا
    فهو مسلم على فطرة الإسلام, يدفن معنا ونصلي عليه" كتبه خادم العلم وأهله :
    عبد الحميد بن باديس - البصائر عدد 79 بتاريخ 20/08/1937, جمادى الثاني
    1356 هـ.

    رابعا : رايه في جواز مسح المرأة على شعرها عند الاغتسال :
    أفتى ابن باديس بالاكتفاء بالمسح على رؤوسهن في الغسل, كما يكتفى بالمسح
    على الخفين والجبائر في الوضوء, تسهيلا عليهن, ودفعا للكلفة والخسارة,
    والدين يسر.

    خامسا : رأيه في بعض حالات طلاق الثلاث : وله عدة فتاوى
    حسب الحلات لأنه كان أعلم العلماء لجأ إليه العديد من الناس لحل مشاكلهم
    في هذا الامر.




    نظرة ابن باديس للإنسان


    الإنسان
    الذي جعله ابن باديس محور خطته التربوية وغايتها, ليس الإنسان المطلق الذي
    اهتمت به الفلسفة القديمة, الإنسان المجرد عن الزمان والمكان, الذي لا
    نستطيع أن نجد نماذج منه في حياتنا, ولا الإنسان الذي اعتمت به بعض
    التيارات الفكرية الحديثة التي تقول بحرية المطلقة وبأنه سيد نفسه وتنكر
    وجود قيم ثابتة تحرك سلوك الإنسان, وليس الإنسان الذي طمست حقيقته المذاهب
    الفلسفية المادية التي تنكر أهمية الجانب الوجداني في الإنسان, والقيم
    الروحية التي تحركه, إنما الإنسان الذي اهتم به ابن باديس وجعله أساس نشاطه
    هو الإنسان الذي يعيش في واقعنا, ويتفاعل مع أحداث عصرنا, الإنسان الذي
    استخلفه الله في هذه الارض ومكنه من استثمار قدراته, لتحقيق الإزدهار
    العمراني, والتقدم الحضاري, الذي يعود عليه وعلى أمته بالخير والسعادة.

    فنظرة
    ابن باديس إلى الإنسان نظرة واقعية لا تجزئ حقيقة الإنسان, ولا تختصرها في
    بعد واحد من الأبعاد المكونة لهذه الحقيقة, بل تشمل جميع ما يكون به
    الإنسان إنسانا مثل الفكر والروح والدوافع (الغرائز) والاعتقادات التي تحصل
    عن طريق العلم وأعمال الفكر, وكذلك الأعمال التي هي عنوان معبر عن حقيقة
    الإنسان, والتي تترجم ما عنده من أفكار وعقائد ومشاعر, والتي بها يتشكل
    وجوده الإنساني وتتحقق إنسانيته, لأن الإنسان - في نظر ابن باديس - كل
    متكامل فكر وغريزة وعقيدة وعمل, ويوضح هذا المعنى فيقول : "إن الإنسان إنما
    هو إنسان بفكره وغرائزه وعقائده وأعماله المودعة كلها في جزئة المحسوس
    الفاني (وهو الجسد) وفي جزئه المعقول الباقي (وهو الروح) وبهذه الأصول
    الأربعة ينهض الإنسان أو يسقط".




    المعرفة والعلم في نظر ابن باديس


    المعرفة
    التي اهتم بها ابن باديس ودعا إلى تلقينها للناس باعتبارها مادة التربية
    واداة التثقيف والتهذيب هي المعرفة التي ترسخ الإيمان وتعصم الاعتقادات من
    الانحراف, والأخلاق من الفساد, والفكر من الضلال, وتفيد الإنسان في حياته
    الدينية والدنيوية.

    وقد يتصور البعض أن المعرفة التي انشغل بها ابن
    باديس واعتبر تعليمها واجبا دينيا, وضرورة اجتماعية هي المعرفة المتعلقة
    بالعلوم الشرعية, وما يخدم هذه العلوم وبعين على فهمها, وما عدا ذلك فلا
    يندرج ضمن اهتماماته, شأنه في ذلك شأن الفقهاء التقليديين الذين يحصرون
    المعارف الواجب تعليمها في الفقه والعقائد والأصول, والحقيقة غير ذلك, فهو
    يعتبر إهمال العلوم المتعلقة بالحياة سببا من أسباب تأخرنا وانحطاطنا, لذلك
    كان يعيب على العلماء الذين أهملوا هذه العلوم التي أوصلت أوربا إلى ما هي
    عليه.
    sami

    مُساهمة الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 9:28 am من طرف sami

    ابن باديس وتعليم المرأة


    الاتجاه
    الذي كان سائدا في عصر ابن باديس لم يكن يشجع تعليم البنت ولم يكن يتيح
    لها فرص التثقيف التي تؤهلها لوظيفتها الاجتماعية التي تنتظرها, بل كثيرا
    ما كانت الفرص التعليمية المتاحة خاصة بالبنين, ومقصورة عليهم في أغلب
    الحالات.

    وهذا الأمر كان يقلق ابن باديس, لذلك أبدى اهتمامه بموضوع
    تعليم المرأة, لأنها شقيقة الرجل وتشكل نصف المجتمع, وهي الركن الركين الذي
    يقوم عليه بناء الأسرة, فاهمال تربيتها, وتركها جاهلة هو هدم لهذا الركن,
    وتفكيك لبنية الاسرة, واضعاف لقدرتها على الاضطلاع بسؤولتها التربوية
    والاجتماعية.

    وكان موقف ابن باديس أن وجه جهوده الاصلاحية والتربوية المتطرفة التي حاولت سلخ المراة المسلمة من مقوماتها وتجريدها من خصوصياتها.

    وهاجم
    بشدة الآراء الجامدة التي حاولت إبقاء المرأة متاعا مهملا, وكذلك الآراء
    المتطرفة التي حاولت سلخ المرأة المسلمة من مقوماتها وتجريدها من
    خصوصياتها.

    ونبه العلماء وأولياء أمور البنات إلى أهمية تعليم
    البنت, ضمن الإطار الحضاري الإسلامي, لأن البنت المتعلمة تستطيع أن تبني
    اسرة منسجمة ومتماسكة, كما تستطيع أن تصور نفسها, وتحفظ كرامتها, وتضطلع
    بوظيفتها التربوية داخل الأسرة, وفي المجتمع اضطلاعا كاملا.

    وقد بين
    في رده على دعاة تحرير المرأة أن التحرير الحقيقي الذي يجب أن نسعى إليه
    هو تحريرها من الجهل, فقال : " وإذا أرتم إصلاحها الحقيق فأرفعوا حجاب
    الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها, فإن حجاب الجهل هو الذي
    أخرها, وأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها, فقد بلغت بنات بغداد
    وبنات قرطبة وبنات بجاية مكانة عالية ما ضرّها في العلم وهنّ متحجبات"
    الشهاب, ج : 10, م 5 نوفمبر 1929.




    العمل الجماعي في نظر ابن باديس


    إن
    ما وصلت إليه أوضاع الأمة الجزائرية من تدهور وتردي في ظل الاستعمار
    الفرنسي الغاشم، لم يترك للإمام ابن باديس من خيار سوى الانطلاق في دعوته،
    ولو بصفة فردية.

    فقد اتخذ من الجامع الأخضر معهدًا لنشاطه العلمي
    والتعليمي والتربوي، معتقدًا بأن العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة،
    في الأقوال والأفعال والمعتقدات، ورغم الجهود الفردية المتواصلة التي كان
    يقوم بها ابن باديس في تلك الفترة، إلا أنه كان يؤمن بوجوب العمل الجماعي،
    وإنشاء حركة منظمة تتولى انتشال هذه الأمة من وهدة الجهل والتنصير
    والفرنسة.
    وقد انسابت أشعة الفجر الجديد من تلك اللقاءات المباركة، التي
    جمعته بالأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في المدينة المنورة، في موسم الحج
    سنة 1913م، حين وضعا البذور الأولى للنهضة، التي ما لبثت أن أيقظت الأصوات
    بعد سكوتها.. وحرّكت الهمم بعد سكونها، يصف لنــا الشيــخ الإبراهيمـــي
    تلك اللقــاءات المباركــة التي جمعتــه بالشيــخ ابن باديس، فيقول: (وكانت
    تلك الأسمار المتواصلة كلها، تدابير للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع
    البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة، التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى
    في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ما حققها في الخارج بعد بضع
    عشرة سنة.

    وأشهد الله على أن تلك الليالي من عام 1913 ميلادية، هي
    التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم
    تبرز للوجود إلا في عام 1931م). فتطابقت أفكار الرجلين على وجوب إنشاء حركة
    إصلاحية في الجزائر، فرسما لها منهاجًا بحكمة ومهارة. وعلى الرغم من
    الحصار الذي فرضه المستعمر على معاهد التعليم الإسلامي والكتاتيب القرآنية،
    إلا أن هذه الروح الجديدة والنفثات الهادئة، جعلتها تستمر في أداء رسالتها
    ومواصلة عطائها.

    يصف لنا الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، تلك
    اليقظة فيقول: (لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس، فكانت ساعة
    اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدّر يتحرك، ويالها من يقظة جميلة
    مباركة).

    ولم تنقطع نداءات ابن باديس لجمع الطاقات وتوحيد الصفوف،
    وتكاتف الجهود، معتمدًا في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و
    سلم اللذين هما الأساس لكل نهضة تتطلع لها الأمة، وفي هذا يقول: (إنما ينهض
    المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوّة، وإنما تكون
    لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة، تفكّر وتدبّر، وتتشاور وتتآزر، وتنهض
    لجلب المصلحة ولدفع المضرّة، متساندة في العمل عن فكرة وعزيمة).
    ورغم ما
    للأعمال الفردية من منافع ومزايا، إلا أنه لا ينهض بالأمم والشعوب من
    العمل إلا ما كان منه منظمًا، تتضافر فيه الجهود وتتآزر. وبعد عشر سنوات من
    شروعه في التعليم وظهور نتائج ذلك في النشء العلمي الذي كوّنه، حاول ابن
    باديس أن يعلن الدعوة العامة إلى الإسلام الخالص والعلم الصحيح.

    ففي
    سنة 1924م، تدارس مع الأستاذ البشير الإبراهيمي فكرة تأسيس جمعية تكون
    نواة للعمل الجماعي، تحت اسم: (الإخاء العلمي) تجمع شمل العلماء والطلبة،
    وتوجّه جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير، وتكون صلة تعارف
    بينهم، ومزيلة لأسباب التناكر والجفاء...). ثم حدثت حوادث عطّلت المشروع
    الذي كان لابد له من زمن أوسع، حتى يتخمّر وتأنس إليه النفوس التي ألفت
    التفرقة.. بعدها انصرف ابن باديس إلى تأسيس الصحافة الإصلاحية، فكانت
    (المنتقد) ثم (الشهاب (التي كان لها في سنتها الثانية والثالثة دعوة إلى
    مثل تلك الجمعية، وكان كُتّاب ) الشهاب( إذ ذاك قد كتبوا في ذلك الموضوع،
    وكانت تلك الأفكار والأقوال تمهيدًا للعمل.

    وتمهيدًا لجمع شمل
    العلماء في الجزائر تحت لواء التنظيم المنشود، بادر ابن باديس إلى تأسيس:
    جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة.



    الخطوة الأولى نحو التعليم المسجدي - تعليم الكبار


    انطلقت
    الجهود الأولة نحو التعليم المسجدي وذلك عام 1913. وكانت البداية من
    الجامع الكبير, حيث بدأ يدرس بلعض الطلبة, وكان الكتاب المركز عليه هو كتاب
    الشفاء للقاضي عياض, أما العامة فكان يقدم لهم دروسا في الوعظ والارشاد,
    غير أن مدّة تعليمه في الجامع الكبير لم تظل, لأن مفتى المدينة والمسؤول عن
    الشؤون الدينية فيها : الشيخ المولد بن الموهوب الإمام الخطيب بهذا
    الجامع, منعه من مواصلة التدريس, بحجة أنه لا يملك إذنا بذلك, والحقيقة أن
    الشاب عبد الحميد رُخِّص له في ذلك, فقد اتصل والده بوالي الولاية, وسعى له
    في الحصول على إذن بالتدريس في الجامع الكبير, فأذن له, ولكنه إذن شفوي,
    ولما شرع الشاب في التدريس اعتبر الشيخ بن الموهوب هذا العمل اعتداء على
    سلطته, لأنه لم يُستشر في ذلك, وحتى غذا كان والد الشاب سعى واستشار والي
    الولاية (عامل العمالة) فإن الشيخ ابن الموهوب اعتبر ذلك تدخلا سافرا فيما
    هو من اختصاصه, لأن والد الشاب حتى وان كان نائبا ساميا في عدة دوائر
    انتخابية ومالية على مستوى البلدية والعمالة والوطن, وله مكانته, إلا أنه
    رجل سياسة لا دخل له في الشؤون الدينية, هذا الأمر أثار حساسية ابن
    الموهوب, ومن هنا بدأت المواجهة بينه وبين المعلم الشاب, الذي لم يكن هدفه
    سوى نشر المعرفة وخدمة بلاده, فسعى الشيخ المفتي في منع المدرس الشاب من
    التدريس, ولكن هذا الأخير لم يتوقف, بل تمادى, فكلف المفتي من يشوش عليه,
    ويطفئ المصابيح وقت الدرس, ولكن الشاب عبد الحميد لم يستسلم, وكلف طلابه أن
    يحضروا الشموع ليدرسوا تحت ضوئها, وقابل المفتي عناد هذا الشاب المدرس
    يتصرف آخر, فأمر أحد اتباعه (الحاج القريشي) بالتصدي له ومنعه, فجاء واطبق
    دفتي الكتاب أمام المدرس عبد الحميد, وأطفا الشموع, وكادت تقع فتنة بينه
    وبين الطلاب, في بيت الله, ولكن المعلم المؤدب أخمد الفتنة وهدّأ طلابه,
    وكلهم شباب متحمس مندفع, باستطاعتهم الفتك بهذا الموظف, أو توقيفه عند حده,
    لو لم يمتثلوا لمعلمهم.

    تأثر الفتى عبد الحميد لهذه المعاملة
    السيئة في بيت الله ومن مفتي المدينة وحامي حمى الإسلام فيها, فعزم على أمر
    كتمه في نفسه, فصرف تلاميذه وأمرهم بترك الجامع والدرس, وفكر في الهجرة من
    جيدي واللحاق بأستاذه المهاجر, ولكنه يعلم أن والده لا يوافقه فغلف هذا
    العزم بفكرة اخرى قد يقبلها ابوه وهي الحج إلى بيت الله الحرام, ففاتح اباه
    في الموضع وابدى رغبته في الذهاب إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك الحج,
    فقبل والده ووافقه, وهيأ له الأسباب التي تمكنه من تحقيق هذه الرغبة.








    البدء في تنفيذ المشروع التربوي المتكامل


    عاد
    الشاب عبد الحميد ابن باديس إلى بلاده بعد الرحلات العلمية التي قادته إلى
    تونس, ثم إلى الحجاز ومصر وسوريا ولبنان, والتحاور مع علماء هذه البلدان,
    عاد إلى بلاده بعد أن تفتح ذهنه على بعض الافكار التي استمدها من كتب بعض
    علماء السلف, أو من العلماء المعاصرين أو محاورات العلماء الذين اتصل بهم
    في هذه الرحلة, عاد وفي ذهنه مشروع كبير صممه مع رفيقه الأستاذ البشير
    الإبراهيمي الذي إلتقى في المدينة المنورة, ويقصي هذا المشروع بضبط خطة
    إصلاحية متعددة الأوجه, تنطلق أساس من التعليم والتثقيف ثم تتوسع لتشمل
    مجالات أخرى, وتعتمد وسائل أخرى كذلك.

    وبمجرد أن عاد غلى بلدة شرع
    على الفور في تنفيذ خطوات المشروع المتكامل الذي كان قد بداه قبل سفره إلى
    الحجاز والذي يرتكز على العمل الاصلاحي من خلال نشر التعليم وتربية
    الاجيال. بدأ يعلم الناس ويرشدهم, ويبثّ الوعس في النفوس ليكون منهم
    الصلائع الأولى التي ستنهض بخدمة البلاد, وتقود قوافل النضال إلى ميادين
    الجهاد المختلفة, ليتم على ايدي تحرير البلاد وتخليصها من كل أشكال الظلم و
    الاستعباد.

    إن الخطة التي اتبعها منذ البداية تتألف من مجالين :
    تعليم الطلاب المتفرغين لتلفي العلم, وتعليم العامة وتثقيفهم, هذا بالنسبة
    إلى التعليم الخاص بالكبار, أما التعليم الموجه لأطفال الكتاتيب فقد أوكل
    أمره إلى بعض طلابه, بعد أن خط لهم النهج الذي ينبغي أن يسيروا عليه, (أي
    اتباع الأسلوب الذي اتبعه في بداية الأمر, حين اشتغل بتعليم صغار الكتاتيب,
    قبل أن يتفرّغ للتعليم المسجدي المنظم).

    وحتى لا يتكرر ما حدث بينه
    وبين الشيخ ابن الموهوبفي بداية استصدر له ابوه رخصة رسمية من والي ولاية
    قسنطينة تسمح له بأن يدرس بالمجّان في (الجامع الأخضر) أحد المساجد الثلاثة
    الجامعة في المدينة التي تشرف عليها الحكومة.

    وهكذا بدأ التدريس
    هذه المرة وفي يديه إذن قانوني, يخوّل له ذلك, فنظّم دروسا لعامة الناس,
    وأخرى خاصة بالطلبة الوافدين يلقى بعضها في الجامع الأخضروبعضها في مسجد
    سيدي قموش, لا يتقاضى على عمله من الحكومة ولا غيرها أجرا. وكان من دروسه
    العامة تفسير القرآن والحديث النبوي الشريف من الموطأ. أما الدروس الموجهة
    للطلبة فتختلف حسب مستوى كل طبقة, ويركز فيها على العلوم الدينية واللغوية
    والتاريخ الغسلامي والتوحيد والمنطق وغير ذلك من العلوم التي تدخل في تكوين
    الطالب.

    وقد جعل من هذا الجامع الذي أصبح قبلة الوافدين على طلب
    العلم, فيما بعد معهدا علميا ينتسب إليه طلبة العلم وفق شروط تنظمية,
    ويتلقون فيه فنون المعرفة حسب المرنامج المسطر لكل مستوى من المستويات
    الاربعةالتي تمثل مرحلة تعليمية بكاملها يحصل الطالب بعدها على تقدير
    اعتباري يخول له الانتقال إلى تونس لإكمال دراسته, أو الانتصاب للتدريس.

    ونظرا
    لأهمية التي يعطيها ابن باديس لشمولية العمل التربوي والتعليمي فتح المجال
    لدروس التثقيف العام لعموم الناس, وفي الأوقات الملائمة لهم, وكانت دروس
    تفسير القرآن الكريم أهم هذه الدروس, التي كان يحضرها جمع غفير يقدر
    بالمئات والتي لم تتوقف طوال حياته.

    ومما يرحظ أن الشيخ ابن باديس
    كان يضطلع بهذه الأدوار المختلفة وحده وخاصة في بداية الأمر, لذلك كان
    يشتغل النهار كله وجزءا من الليل خصوصا بعدما أضاف دروسا خاصة بالشباب
    الذين هم بحاجة إلى تعلم لغتهم ودينهم وتاريخهم وثقافتهم الإسلامية.

    وبعد
    أن اكتمل نظام التعليم المسجدي بقسميه الخاص والعام, وبدأ يعطي ثماره
    الأولى راى الشيخ أن هناك واجبا وطنيا آخر يجب أن يضطلع به ويدرجه ضمن
    مشروعه التربوي والاصلاحي, هو تعليم الأطفال الذي بلغوا سن التعلم, ولم
    يجدوا مكانا لهم في المدارس الحكومية, أو الذين يدرسون في هذه المدارس
    ولكنهم بحاجة إلى تعلم لغتهم ومعرفة دينهم وتاريخهم, فاسس سنة 1926 أول
    نواة للتعليم الابتدائي الحر, حيث أنشأ مدرسة بمسجد سيدي بومعزة, وأطلق
    عليها اسم المكتب العربي "المكتب مرادف للفظة الكتّاب" وأسند إدارتها إلى
    أحد طلابه الأوائل هو الشيخ مبارك الميلي بعد تخرجه من جامع الزيتونة, ثم
    انتقل إلى مقر الجمعية الخيرية لإتساعه وتعدد حجراته ووسع نطاق عملها, وشكل
    هيئة للإشراف عليها سماها (جمعية التربية والتعليم الإسلامية), واستعان
    ببعض المشايخ من طلابه ومن المتخرجين من جامع الزيتونة في توسيع التعليم
    المدرسي الذي سيعرف في المستقبل مع جمعية العلماء نهضة وتوسعا كبيرين, وهذه
    البداية تدل على أن الشيخ كان يفكر جديا في وضع أسس صحيحة لتعليم إسلامي
    عصري.








    أول مدرسة عربية أنشأها ابن باديس


    وقبل
    أن يُنشأ المكتب العربي (المدرسة الابتدائية) لم يكن هناك اهتمام بتعليم
    الصغار غذا استثنينا الكتاتيب القرىنية المتصلة بالمساجد والزوايا, والتي
    كان التعليم فيها يجري على الطريقة القديمة, ويكتفي فيها بتحفيظ القرآن.

    يقول
    ابن باديس : "كان التعليم المسجدي بقسنطينة قاصرا على الكبار, ولم يكن
    للصغار إلا الكتاتيب القرآنية, فلما يسّر الله لي الانتصاب للتعليم عام
    1332 هـ (1913م) جعلت من جملة دروسي تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد
    خروجهم منها في آخر الصبيحة وآخر العشية, فكان ذلك أول عهد الناس بتعليم
    الصغار في قسنطينة.

    ثم بعد بضع سنوات رآى جماعة من الفضلاء المتصلين
    بي تاسيس مكتب أي مدرسة يكون أساسا للتعليم الابتدائي العربي, فأسسناه...
    وكان الأخوان الفاضلان السيد العربي والسيد عمر بن مغسولة قد اشتريا مسجد
    سيدي بومعزة, والبناء المتصل به, وكان فوق بيت الصلاة محل للسكنى بالكراء
    فأزالاه عن ذلك, وأبقياه محلا فارغا, فجعلناه هو محل (المكتب) وذلك عام
    1926.

    "ثم نقلناه إلى بناية الجمعية الخيرية لاتساعها... وفي سنة
    1930م - 1349هـ رأيت أن أخطو بالمكتب خطوة جديدة, وأخرجه من (مكتب جماعة)
    إلى (مدرسة جمعية) فحررت القانون الأساسي (لجمعية التربية والتعليم
    الإسلامية), وقدمته باسم الجماعة المؤسسة إلى الحكومة فوقع النصديق عليه". -
    نشرة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة سنة 1936 ص 1و2.

    وقد
    اثرت هذه الجهود التي انطلقت في مجال التعليم المدرسي الحّر بقسنطينة في
    بعض الجهات الأخرى فقام المخلصون فيها بإنشاء مدارس للتعليم القومي في تلك
    الفترة ومن اشهر هذه المدارس التي ادت دورا مهما (مدرسة الشبيبة الغسلامية
    بمدينة الجزائر) من عام 1927 إلى أن استولت عليها الإدارة الاستعمارية.

    "ومن
    بين رجالات الفكر والأدب الذين اشتركوا في التدريس بها (الهادي السنوسي,
    محمد العيد آل خليفة, عبد الرحمان الجيلالي, باعزيز بن عمرو, جلول البدوي
    وفرحات الدراجي وغيرهم".

    ومما تجدر الإشارة إليه أن التشاط التعليمي
    الذي جعل منه ابن باديس مدخلا حيويا لتحقيق أهداف الحركة الإصلاحية لم يكن
    نشاطا تعليميا عاديا يستهدف فقط تلقين المعرفة, وأدوات اكتسابها وإنما كان
    له هدف أسمى من ذلك, إذ كان يسعى إلى بناء جيل جديد, يحمل الفكرة
    الإصلاحية, وينشرها ويدافع عنها, كما كان يسعى إلى إصلاح التعليم نفسه :
    "وإذا كانت التربية والتعليم أحد المقاصد الأساسية للإصلاح الإسلامي
    بالجزائر فإن التعليم المسجدي على وجه الخصوص يعتبر من أهم الوسائل التي
    لجا إليها الشيخ عبد الحميد بن باديس للتوعية والتثقيف, وفضلا عن كونه
    وسيلة لإنعاش الفكر وتهذيب النفس, فإنه سلاح سياسي للرد على الاستعمار
    والذود عن الإسلام والعربية باعتبارهما من مقومات الأمة الجزائرية.








    جمعية التربية والتعليم الإسلامية


    وهي
    أول جمعية إسلامية تعنى بالتربية والتعليم، يرخّص لها في قسنطينة، وقد كان
    مكتب التعليم العربي النواة الأولى التي انبثقت عنها هذه الجمعية، التي
    اختارت الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسًا لها.

    وعن تأسيس هذه
    الجمعية يقول ابن باديس: (وفي سنة 1349هـ ـ 1930م، رأيت أن أخطو بالمكتب
    -مكتب التعليم العربي- خطوة جديدة، وأخرجه من مكتب جماعة إلى مدرسة جمعية،
    فحررت القانون الأساس لجميعة التربية والتعليم الإسلامية، وقدّمته باسم
    الجماعة المؤسسة إلى الحكومة، فوقع التصديق عليه).

    وقد تميّزت طبيعة المرحلة التي أنشئت فيها هذه الجمعية بعدة أمور، نذكر منها ما يلي:

    1 ـ تضاعف نشاط الإرساليات التبشيرية في الجزائر.

    2 ـ انحسار التعليم العربي الإسلامي.

    3 ـ مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر.

    ولذلك فقد أخذ القانون الأساس للجمعية تلك المعطيات وغيرها بعين الاعتبار، وركّز على الجوانب الآتية:
    1
    ـ جعل المقصد الرئيس لهذه الجمعيــة هو نشــر الأخــلاق الفاضلــة
    والمعارف العربية والفرنسية، وعدم الخوض في الأمور السياسية، تفاديًا
    للاصطدام بالسلطات، التي تعيش في غمرة التحضير لاحتفالات مرور قرن على
    الاحتلال.

    2 ـ تأسيس مكتب لتعليــم أبنــاء المسلمين الذين لــم
    يتمكنـــوا من الالتحاق بالمدارس الحكومية، وتثقيف أفكارهم بالعلم
    باللسانين العربي والفرنسي.

    3 ـ تأسيس ملجأ لإيواء اليتامى، الذين تتربص بهم البعثات التنصيرية لاحتوائهم وإبعادهم عن دينهم.

    4 ـ تأسيس معمل للصنائع، بمثابة ورشات يتدرّب فيه الطلبة على مختلف الحرف، حتى إذا ما تخرّجوا سَهُل اندماجهم في الحياة العامة.

    5
    ـ إرسال البعثــات العلميــة إلى بعض جامعــات الـدول الإسلاميــة، لإتمام
    تحصيلهم العلمي، وإعدادهم لغد مشرق، يكونون فيه -بإذن الله- قادة يسوسون
    أمتهم وأمور حياتهم، ويجمعون شتاتها، ويعيدون لها أمجادها وقوتها.

    كما
    عزمت الجمعية على فتح قسم خاص لتعليم البنات، وتربيتهن التربيـة
    الإسلاميـة الصحيحة، إدراكًا بأن المجتمع لا يمكن أن ينهض إلا بالجنسين،
    الرجل والمرأة، كمثل الطائر لا يطير إلا بجناحيه.
    ويشرح لنا ابن باديس
    أهمية ذلك فيقول: (إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً، فعلينا أن نكوِّن أمهات
    دينيات، ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًا، وتربيتهن تربية
    إسلاميـة.. وإذا تركناهنّ علـى ما هنّ عليه من الجهل بالدين، فمحال أن نرجو
    منهن أن يكوِّنَّ لنا عظماء الرجال). وقد جعلت الجمعية تعليم البنات
    مجانًا، لتتكون منهن -إن شاء الله- المـرأة المسلمـة المتعلمـة. وأمـا
    البنون فلا يدفع منهـم نفقـات التعليم إلا القادرون على ذلك، وهي في
    الحقيقة نفقات رمزية، سعيًا لتيسير الاشتراك على جميع طبقات الأمة.

    إن
    جوانب الإصلاح الإسلامي كثيرة ومتعددة، إلا أن جمعية التربية والتعليم
    الإسلامية اهتمت بالنشاط التربوي، والتعليم بوجه خاص، ذلك لأهمية هذا
    القطاع وحيويته بالنسبة لمستقبل الأمة، وتماشيًا مع ما تتطلبه تلك المرحلة
    من أولويات. وما هي إلا أشهر قليلة إلا والعلماء في الجزائر يستعينون بأداة
    عصرية أخرى في حركتهم الإصلاحية، حيث أسسوا جمعية لهم تجمع شملهم وتوحّد
    صفوفهم.

    فكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، استجابة واعية لما تقتضيه التحديات الخطيرة، التي تواجهها الأمة الجزائرية في تلك المرحلة.
    ولإن
    اقتصرت جمعية التربية والتعليم الإسلامي على جانب التربية والتعليم، فإن
    جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وسّعت نشاطها ليشمل جوانب أخرى من حياة
    الأمة، وفق منهج واضح وأهداف محددة.
    sami

    مُساهمة الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 9:31 am من طرف sami





    الدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين


    بعد
    العشر سنوات التي قضاها ابن باديس مجاهدا بمفرده يعلم الناس ويرشدهم ويصحح
    لهم أمور دينهم, ويستنهض همم العلماء الذين تقاعسوا عن واجباتهم في بث
    الوعي الوطني والدين, تأكد لديه أن معركة الدفاع عن الجزائر وعن مقوماتها
    لا يمكن أن يقوم بها شخص واحد, أو جماعة محدودة العدد, وبسلاح واحد, لذلك
    بدأ تفكيره يتجه إلى توسيع الخطة الاصلاحية التي شرع في تنفيذها منذ رجوعه
    من الحجاز عام 1913, وهكذا وابتداءا من سنة 1924 أخذ يتطلع إلى الدخول في
    مرحلة جديدة تتكامل فيها وسائل العمل النضالي ويوجه فيها جهد المخلصين من
    أبناء هذا الوطن للتصدّي لإفشال سياسة الاستعمار, والقيام بواجب خدمة الوطن
    والدين واللغة, وإصلاح الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية, والسعي
    إلى تحقيق يقظة فكرية, وبعث شعور قومي, ووعي سياسي وديني, يدفع الحركة
    الاصلاحية إلى الأمام. وكان من الطبيعي أن يتطلع ابن باديس إلى استكمال
    الأدوات التي تحتاج إليها الحركة الاصلاحية, وتأسيس الهيئات التي تشد عضده,
    وتعينه على أداء المهمة الثقيلة وكانت في ذهنه عدة أمور منها :

    تأسيس
    نواة للعمل الصحافي, وقد تم ذلك في عام 1925 باصدار أول صحيفة له
    (المنتقد) وإنشاء هيئة لتنظيم التعليم الحر والإشراف عليه وكان عام 1930
    حين تم إنشاء (جمعية التربية والتعليم الإسلامية) وهيئة أخرى تكون بمثابة
    مجلس علمي أو حزب ديني تتولى تنشيط الحركة الاصلاحية في جميع توجهاتها,
    وتنهض بأعباء الاصلاح والإرشاد والدعوة الإسلامية والتوعية السياسية
    والدينية, هيئة تضم العلماء وتجندهم لخدمة البلاد والوقوف في وجه
    الاستعمار, وهذه هي (جمعية العلماء) التي ستظهر إلى الوجود في عام 1931,
    كما سيأتي.

    كما كان في ذهن ابن باديس إنشاء شبكة من المدارس
    والمعاهد للتعليم الحرّ تتوج في النهاية بكلية للتعليم العالي, وإحداث نظام
    ايفاد البعثات إلى الخارج, لكن المنية لم تمهله حتى ينجز كل هذه المشاريع,
    وخاصة المشروعين الأخيرين.

    إذن بدأ التفكير في كل هذه الأمور في
    الفترة التي سبقت تأسيس جمعية العلماء أي من عام 1924. وكانت فكرة إنشاء
    جمعية العلماء هي الفكرة المسيطرة على تفكير ابن باديس لذلك عرضها على
    الشيخ البشير الإبراهيمي حين زاره في مدينة سطيف التي اتخذها هذا الأخير
    مقرا له بعد عودته من المشرق في عام 1920, وما يذكر في هذا الصدد أنه إلتقى
    به المدينة المنورة في اثناء رحلة الحج, وتباحث معه في شأن الجزائر
    والظروف التي تمرّبها, وتعاهدا منذ ذلك الوقت على التفكير في وضع خطة
    لتخليص البلاد من محنتها, وخدمة دينها ولغتها, وتربية أجيالها. وفي هذا
    اللقاء طلب منه ابن باديس أن يفكر معه في إنشاء جمعية يختار لها جمع من
    العلماء المؤمنين الشاعرين بمحنة بلادهم والقادرين على الأخذ بيدها, واصلاح
    حالها والاضطلاع بهمة مكافحة أشكال الانحراف والبدع التي تعرفها, والوقوّف
    في وجه مخططات الاستعمار, جمعية تستطيع القيام بهذا العبء الذي كان ابن
    باديس ينظر إليه على أنه السبيل لتحضير الشعب لخوض معركة المصير, لأن
    الاضطلاع بالعبء الاصلاحي والتربوي.

    وهكذا بدات الفكرة تنمو وتختمر
    في اذهان الذين وصلت إليهم, وكان نادي الترقي بالعاصمة الذي كانت تلقى بها
    المحاضرات, ويلتقي فيه المثقفون المجال الحي الذي نمى فكرة إنشاء جمعيو
    العلماء, وهيا المناخ الفكري لها, ومن الأمور التي هيات الجوالفكري لهذه
    الجمعية هو أن ابن باديس بادر بإنشاء الصحف التي تنشر الأفكار الاصلاحية
    والمبادئ التي تقوم عليها هذه الافكار, حيث دعا ابن باديس في مختلف الصحف
    إلى اتحاد العلماء وتجمعهم, والاتفاق على خطة عمل لإصلاح الأوضاع الدينية
    والتعليمية والاجتماعية والسياسية, فهو يشير هنا إلى ضرورة إنشاء جمعية من
    العلماء

    الوجه السياسي لابن باديس


    لم يكن هدف ابن باديس
    الخوض في المسائل السياسية البحتة, ولكن الوضع المتردي الذي كانت تعيشه
    بلاده والانتهاكات والمظالم التي كان يتعرض لها الشعب فرضت عليه أن يدخل
    هذا الميدان من مداخل مختلفة. وإن لم يصرح بذلك, ويخوض في بعض المسائل التي
    يراها جديرة بالمناقشة, والتي كان يحرص من خلال تناوله على اكساب
    المواطنين وعيا بحقوقهم, وبأشكال الظلم المسلط عليهم, وإدراكا لحقيقة ما
    يجري في وطنهم, ليعرفوا - كنتيجة لذلك - ما يجب فعله...

    لقد خاض ابن
    باديس منذ أن فرض على نفسه هذه المهمة معارك نضالية شديدة دفاعا عن الكيان
    الجزائري, وقد انتهج في نضاله هذا أساليب متعددة إصلاحية وتربوية وسياسية,
    فكانت مواجهاته السياسية ساخنة تظهر في الصدام مع الإدارة الفرنسية
    وعملائها, وفي الدعوة إلى تحضير الرأي العام وتعبئة الجماهير للمطالبة
    بحقوقهم, كما كانت تظهر في الاجتماعات التي تعقد للنظر في أوضاع الجزائر,
    وتحديد المطالب التي ترفع إلى السلطة الفرنسية, وفي تقديم العرائض
    والاحتجاجات, وفي الردود الصحافية, التي كان أساسها الدفاع عن الشخصية
    الجزائرية, وكرامة المواطن التي اصبحث محل مساومة.

    ولم يكن ابن
    باديس في كل هذه المجابهات يخفي أفكاره السياسية التي كان يعبر عنها بلهجة
    حادة أحيانا تنبئ عن شخصية قوية وجريئة, وثقة عالية بالنفس, وعن تفكير
    منسجم يظهر معه تفكير الخصوم ضعيفا ومتهافتا, وحتى الحكام لم يسلموا من
    نقده لهم وتسفيه أفكارهم, والتنديد بأساليب معاملتهم لأبناء البلد الذين
    استعانوا بهم في وقت الشدة والحروب, وتعنيفهم على المماطلة في تنفيذ الوعود
    التي كانوا يلوحون بها.

    ومن الأمور التي تشكل الوجه السياسي لابن باديس والعمل الاصلاخي الذي أعطاه كل حياته ما يلي :

    1- مجابهة الإدارة الفرنسية والدخول في صراع معها.

    2- الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي والمساهمة فيه.

    3- دعوة النواب إلى مقاطعة المجالس النيابية.

    4- محاورة لجنة البحث البرلمانية الفرنسية.

    5- نداء إلى سكان قسنطينة لمقاطعة الاحتفالات القرنية لاحتلال المدينة.

    6- موقفه السياسي من وعود حكومة فرنسا.

    7- موقفه من إرسال برقية التضامن مع فرنسا ضد التهديد الألماني.

    8- محاولة أخرى للتحاور مع حكومة فرنسا.

    9- تقديم العرائض والاحتجاجات.

    10- الردود على التصريحات.

    11- مقاومة سياسة الاندماج والتجنيس.

    12- موقفه من مساومة الولاية العامة وإغراءاتها.

    13- رأيه في الحرية والاستقلال.

    14- استخلاص لأصول الولاية (الحكم) في الإسلام.

    15- دوره في إخماد نار الفتنة بين اليهود والمسلمين صيف 1934.




    تحليل مكونات شعار الحركة الإصلاحية


    إن
    التحليل الذي اعتمده ابن باديس في تبيان حقيقة العناصر المكونة للشخصية
    الوطنية وتحديد مفهوم كل عنصر من عناصرها طرح فيه جملة من المعاني
    والتحديدات التي أضافت غلى عناصر التعريف عناصر اخرى وظيفية وتاريخية تحدد
    من خلالها المفهوم المتكامل والدال الذي اعطاه ابن باديس للإسلام واللغة
    العربية والوطن الجزائري, ذلك المفهوم الذي يتطابق مع شعوره الوطني ونظرته
    الاجتماعية, وفكرته الفلسفية, واتجاهه الديني, وفيما يلي تبيان حقيقة كل
    عنصر كما يراها ابن باديس.

    الإسلام ديننا :

    الإسلام في منظور
    ابن باديس منهج هداية ونظام اجتماعي شامل تنتظم ضمن فصوله أمور الحيتة
    الدنيا, ومطالب الحياة الأخرى, لأن الإسلام في جوهره, وكما فهمه ائمة السلف
    هو سعي جاد إلى المواءمة بين الطبيعة والإنسان وبين الحياة البشرية في
    جوانبها المادية, والحياة البشرية في جوانبها الروحية, وهو بهذا يسع
    الأوطان والأقوام والأجناس, وستوعبها ويحترم الأديان ويعترف بها, ويدعو إلى
    حسن المعاملة حتى مع المخالفين للدين, غير المحاربين, مصداقا لقوله تعالى :
    "لا يناهكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين غير المحاربين, ولم
    يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"
    (الممتحنة : Cool
    فالإسلام دين عدل وإنصاف وتسامح, لأنه كما يقول ابن باديس : " دين
    الإنسانية التي لا نجاة لها ولا سعادة إلا به, لأن خدمتها لا تكون إلا على
    أصوله".

    ومن أقوله التي تؤكد فيها هذا المفهوم قوله : "الإسلام
    عقد اجتماعي عام فيه ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته
    ورقيه, وقد دلت تجارب الحياة كثيرا من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة
    للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام ويقصد هنا في ضوء
    المبادئ والقواعد التي يدعو إليها الإسلام".

    إن الإسلام الذي يراه
    ابن باديس طريقا لخلاص الأمة من أوضاعها المتردية هو الإسلام الإيجابي الذي
    يحارب السلبية والجمود, والاستكانة والاستسلام لليأس والكسل, ويناهض كل
    أشكال الاستغلال والاضطهاد, والتميز العرقي والجنسي, ويدفع المنتمين إليه
    إلى الثورة على ما في نفوسهم من ضعف وجبن وتردد, وعلى الأوضاع الفاسدة التي
    تعوق مجتمعهم عن النهوض والتقدم ومقاومة التخلف بكل أشكاله.

    فابن
    باديس حرص على تحديد مفهوم يعطى للإسلام والذي يجمع بين الاعتقاد والسلوك,
    وبين العلم والعمل, أو بين البناء الفردي والباء الاجتماعي, بين الدين
    والسياسة بين الدين والدنيا, بين المحافظة على مقومات الأمة وبين العمل
    للسير بها في ركاب الحضارة المعاصرة, وبعبارة أخرى بين التشبت بحقيقتها
    كأمة لها وجود متميز وبين التطلع إلى الأخذ بأسباب التقدم والتطور, لمسايرة
    الركب, هذا هو الإسلام الذي ظل ابن باديس يدعو إليه ويجاهد في سبيل بعثه
    نقيا صافيا كما كان في عهوده الأولى.

    العربية لغتنا :

    اللغة
    في الأساس مستودع قيم الأمة, والحافظة لكيانها والرمز المعبر عن حقيقتها,
    والوعاء الحامل لهويتها وتراثها, فهي عقل الأمة وروحها ووجدانها, وأساس
    وحدتها, وعماد تفكيرها, ومنطلق نهضتها.

    واللغة من جهة أخرى هي الجسر
    الذي يصل أبناء الأمة بأسلافهم, وبما تركوه من مجد وفكر, وهو الذي يصلهم
    بأبنائهم وأحفادهم في المستقبل, ويعزز الروابط بين أفراد الأمة الواحدة.

    وابن
    باديس الذي حفظ القرآن وتأثر بحقائقه, وتشرب الثقافة العربية الإسلامية
    منذ صغره امتلأت نفسه حبّا لهذه اللغة, وتقديرا لقيمتها الثقافية, فدرسها
    ودرس تاريخها وآدابها, وعرف الوظائف الحية التي تضطلع بها, والقيم التي
    تزخر بها, وأدركبعمق ارتباطها بالإسلام, وبوجدان الإنسان المسلم, لأنها
    الأداة التي بها يناجي ربه, ويفهم القرآن, ويطلع على حقائق الإسلام
    والتراث, وبها يتواصل مع ابناء جنسه ويحسّ بانتمائه القويّ إلى أمته, وبأن
    هذه اللغة جزء من كيانه وركن من أركان شخصيته.

    نورد فيما يلي نصا
    لابن باديس يحدد فيه مكانة اللغة العربية وارتباطها بالتاريخ وعلاقتها
    بالعقيدة والفكر والوجدان, ويشير إلى خصائصها, ويحدد من خلال ذلك نظرته
    غليها فيقول : " علينا أن نعرف تاريخنا ومن عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه
    منزلة لائقة به في هذا الوجود... ولا رابط تربط ماضينا بحاضرنا الأغر
    والمستقبل السعيد إلا هذا الحبل المتين : اللغة لغة الدين لغة الجنس, لغة
    القومية, لغة الوطنية المحروسة...

    غنها وحدها تارابطة بيننا وبين
    ماضينا, وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا, وبها نقيس
    من يأتي بعدنا من أبنائنا وأحفادنا الغرّ الميامين أرواحهم بأرواحنا, وهي
    وحدها اللسان الذي نعتز به, وهي الترجمان عما في القلب من عقائد وما في
    العقل من أفكار وما في النفس من آلام وآمال...

    إن هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين وخدم العلم وخدم الإنسانية هو الذي نتحدث عن محاسنة منذ سنين, فليحقق الله أمانينا".

    الجزائر وطننا :

    الجزائر
    بالنسبة إلى ابن باديس هي وطنه الخاص, وهي عنده ليست اقليما جغرافيا فحسب,
    ولكنه كيان حي من البشر الذي يعيشون فيه, وتؤلف بينهم روابط الدين واللغة
    والتاريخ, يقول في الشطر الثاني من السؤال (لمن أعيش) أعيش للإسلام
    والجزائر :

    "...أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط
    من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص, وتفرض علي تلك الروابط لأجله -
    كجزء منه - فروضا خاصة ,انا اشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه
    مباشرة, فأرى من الواجب أن تكونخدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة
    وكما أني كلما أردت أن أعمل عملا وجدتني في حاجة إليه, إلى رجاله وإلى
    ماله, وإلى آلامه وآماله, وكذلك أجدني أعمل - إذا عملت - قد خدمتُ بعملي
    ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إله, وهكذا.

    ويشرح ابن باديس هذه
    الأوطان ويرتبها ترتيبا طبيعيا في دوائر متداخلة ومتكاملة, في مقال بعنوان :
    "الوطن والوطنية" صدره بشعار جريدة (المنتقد) وهو : "الحق فوق كل أحد
    والوطن قبل كل شيء", قال فيه : " بهاتين الجملتين منذ نيف وعشر سنين توجنا
    جريدة المنتقد الشهيدة وجعلناهما شعارا لما تحمله في رأس كل عدد منها. هذا
    آيام كانت كلمة الوطن والوطنية كلمة إجرامية لا يستطيع أحد أن ينطق بها,
    وقليل جدا من يشعر بمعناها, وإن كان ذلك المعنى دفينا في كوامن النفوس ككل
    غريزة من غرائزها, لا سيما في أمة تنسب إلى العروبة, وتدين الإسلام, مثل
    الأمة الجزائرية ذات التاريخ المجيد...."




    خصوصيات الحركة الإصلاحية التي قادها ابن باديس


    في
    البداية ينبغي أن نؤكد حقيقة أن الحركة الإصلاحية التي تزعمها ابن باديس
    لم تنشأ من عدم, ولم تنطلق أعمالها من فراغ, بل سبقتها جهود فردية متفرقة
    زمانا ومكانا, كان لها دور في تهيئة النفوس والعقول لتقبل فكرة الإصلاح,
    والتطلع إلى حياة فكرية جديدة تساير روح العصر وتستجيب لتطلعات الأمة.

    إن
    هذه الجهود كانت بمثابة إرهاصات ممهدة للحركة الإصلاحية التي قادها ابن
    باديس التي نود هنا أبراز بعض خصوصياتها, وقد برزت هذه الإرهاصات من خلال
    نشاط من خلال نشاط بعض العلماء الذين كان لدروسهم وكتاباتهم تأثير مباشر في
    بعث حركة فكرية هيأت الجو الملائم لنشر الدعوة الاصلاحية والثورة على
    الجمود.

    ومن العلماء الذين نقلوا الفكرة الإصلاحية إلى الجزائر بعد
    ان عاشوها في المشرق وتشربتها نفوسهم : الشيخ البشير الإبراهيمي, والشيخ
    الطيب العقبي اللذان كان لهما أثر واضح في تهيئة الجو النفسي والفكري
    والسياسي لتأسيس الحركة الإصلاحية في الجزائر.

    وبهذا توجها ابن
    باديس من خلال التعليم ومعاركه الصحافية إلي تكوين قاعدة شعبية عامة منتظمة
    تتبنى أفكاره, وترتبط بتوجيهاته. ومن هنا نتبين أن مثل هذه الظروف القاسية
    لم تعرفها الحركات الإصلاحية في الجزائر تتميز بأمور عديدة, ورغم هذه
    الظروف الصعبة والمعقدة أحيانا نجحت هذه الحركة أيما نجاح, وهيأت جيشا من
    الوطنيين كان عُدّة الثورة عند انطلاقها في سنة 1954 وعماد بناء الدولة في
    بداية الاستقلال

    ابن باديس والعمل الإعلامي



    «الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شي‏ء».

    هذا الشعار رفعه عبد الحميد بن باديس في وجه المستعمر، وهو يخوض معركتين معاً.

    المعركة الأولى هي تعريب الجزائريين، وتعليمهم اللغة، وتفسير القران، ومقاومة الحملات التبشيرية الفرنسية.

    والمعركة الثانية هي: طرد المستعمر من بلاده.

    لذلك
    بدأ الإمام ابن باديس يتجه للصحافة كمجال ينفذ منه بفكره إلى مساحة عريضة
    من الناس، تكون أقوى، وأوسع انتشاراً من محاضراته في المسجد الأخضر... وقد
    يجد صوته صدى إذا خرجت الصحيفة إلى نطاق أوسع من الجزائر، و في نفس الوقت
    لا تتعرّض إلى طائلة المستعمر الفرنسي و بطشه ، فوجد أن أفضل وسيلة متاحة
    هي : الصحافة ، فاتّجه إليها .

    كان ابن باديس شغوفاً بقراءة الصحف
    والمجلات العربية كالمنار للإمام رشيد رضا، ومجلة الفتح لمحب الدين الخطيب،
    وجريدة المؤيد واللواء والجرائد الفرنسية لاديبيش دوكونستونتين ولوتو. وعن
    هذه الصحف الأخيرة يقول ابن باديس "لا ننكر أننا مع المعجبين(...)
    بالصحافة الفرنسية الكبرى، ومالها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة
    وإقدام". وكان على يقين بالدور الفعَّال الذي تمارسه الصحافة في توعية
    الجماهير والتأثير في أصحاب القرار، وهذا ما جعله يؤسس مطبعة ويصدر جرائد
    لتحقيق هذه الأهداف ودعم نشاطه التربوي خارج المسجد.

    الصحافة قبل ظهور دعوة ابن باديس

    يصعب
    تعيين تاريخ محدّد لظهور الصحافة في الجزائر، إلا أن المؤكد أنها رافقت
    دخول الاستعمار، فقد استعملها الفرنسيون المعتدون لتبليغ القوانين
    والتشريعات والأوامر الإدارية إلى الشعب الجزائري، كما عنيت تلك الصحافة
    بإظهار سمعة فرنسا وما لها من الفضل على العرب والمسلمين من جهة، وتشويه
    رجال المقاومة الإسلامية الذين رفعوا السلاح في وجه الاستعمار من جهة أخرى.

    وظلت
    الصحافة الاستعمارية على هذا الخط فترة طويلة، إلى أن ظهر بعض الكتّاب
    الجزائريين الذين كتبوا حول الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد
    كانت في أغلبها ترمي إلى خدمة الوجود الفرنسي في الجزائر، أكثر مما ترمي
    إلى إفادة الشعب الجزائري، ذلك لأن الطابع الفكري العام لما يكتب في تلك
    الصحافة كان موجّهًا توجيهًا مباشرًا من طرف الاستعمار.. ولا نكاد نصل إلى
    نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حتى ظهرت بعض الصحف التي تندد بسياسة
    اليهود والمستعمرين تجاه الأهالي.

    فقد ظهرت صحيفة (الحق) في مدينة
    (عنّابة) سنة 1893م بالفرنسية، ثم في سنة 1894م بالعربية، ثم جريدة المغرب
    سنة 1903م، وكانت تسعى إلى التأليف بين الأهالي وبين الأمة الفرنسية، وكان
    جُل الكتّاب في هذه الصحيفة جزائريين، منهم الشيخ عبد القادر المجاوي،
    والشيخ عبد الحليم بن سماية، وغيرهم من المثقفين الذين عُرفوا باتجاههم
    الإصلاحي.

    بعد ذلك ظهرت طلائع الصحافة الإسلامية الإصلاحية، مثل
    (الفاروق) التي أصدرها الأستاذ عمر بن قدور، و(ذو الفقار) التي أصدرها
    الأستاذ عمر راسم سنة 1913م.

    فاهتمت بالإصلاح الديني والوضع الاجتماعي، وأحوال الشباب، والتعليم واللغة العربية.

    هذا باختصار هو الاتجاه العام للصحافة في تلك الفترة.



    بداية نشاط ابن باديس الصحفي

    إن
    ما جرّته الحرب العالمية الأولى من ويلات على الأمة الجزائرية، ساهم في
    إيجاد يقظة عامة في معظم طبقات الشعب، وظهور نوع من النضج الفكري والإرادة
    القوية لتغيير الأوضاع المتردية التي آلت إليها البلاد.

    وقد أحسّ
    ابن باديس بعد سنوات من الجهد المتواصل في التعليم المسجدي والخطب، بضرورة
    توسيع دائرة دعوته، لتشمل عددًا كبيرًا من الشعب، فأقدم على استخدام القلم
    مع اللسان، مستعينًا بأدوات العصر لإبلاغ دعوته، وفي مقدمتها الصحافة التي
    خصص للجانب التربوي فيها نصيبًا وافرًا.

    شارك ابن باديس في تأسيس
    وتحرير جريدة (النجاح) التي صدرت في عام 1919 م حيث كانت في بداية أمرها
    إصلاحية، ثم انحرفت فتركها ليستقل بصحافته.. وكانت مقالاته تُـمهر باسم
    مستعار هو " القسنطيني " أو " العبسي ". في ذلك الحين ظهرت بعض الصحف
    الوطنية والإصلاحية، منها جريدة (الصدّيق)، التي رأس تحريرها السيد عمر بن
    قدور، ثم أصدر الأمير خالد جريدته (الإقدام) بين (1920-1923م). وفي سنة
    1926 م أسس الشيخ أبو اليقظان أحد رموز جمعية العلماء المسلمين أول جريدة
    عربية باسمه تحت عنوان (وادي ميزاب) أرادها لتكون لسان حال الفكر الإسلامي
    عموما و الجزائري خصوصا. و لأنه كان نسيج وحده في الأسلوب المقاوم الذي لا
    يهادن و لا ينافق، فإنه تجرع في سبيل سير صحافته الغصص، و تحمل المشاق
    المادية المرهقة، يكفي أن نعرف أن جريدته هذه كانت تحرر بالجزائر، و تطبع
    بتونس، ثم تعود بالقطار لتوزع في الجزائر هكذا كل أسبوع طيلة عامين و نصف
    لم تتخلف فيها عن الظهور قط، و كان يعاونه في طبعها زميلاه في الجهاد
    الوطني الشيخ محمد الثميني، و ابن الشيخ قاسم بن الحاج عيسى. و كانت جريدة
    (وادي ميزاب) بداية لجهاد مرير دام ثلاث عشرة سنة، أصدر خلالها ثماني جرائد
    أسقطها الاستعمار الواحدة تلو الأخرى، لأنه لم يطق حرارة لهجتها، و جرأة
    معالجتها، و هي التالية: (وادي ميزاب) 119عددا، من 01/10/1926 إلى
    18/01/1929م، (ميزاب) عدد واحد، 25/01/1930م، (المغرب) 38 عددا، من
    29/05/1930 إلى 09/03/1931م، (النور) 78 عددا، من 15/09/1931 إلى
    02/05/1933م، (البستان) 10 أعداد، من 27/04/1933 إلى 13/07/1933، (النبراس)
    6 أعداد، من 21/07/1933 إلى 22/08/1933، (الأمة) 170 عددا، من 08/09/1933
    إلى 06/06/1938، (الفرقان) 6 أعداد، من 08/07/1938 إلى 03/08/1938.

    الصحف الباديسية

    المنتقد :

    هدفت
    الجريدة إلى تسليط الضوء على أخطاء المستعمر، وصدر العدد الأوّل في 3
    يوليو سنة 1925م الموافق 11 ذي الحجة سنة 1343هـ وذلك في مدينة قسنطينة،
    وكان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء"، تولى الشيخ ابن باديس
    رئاسة تحريرها وأسند إدارتها للشهيد أحمد بوشمال، وكان من كتابها الشيخ
    مبارك الميلي، والشيخ الطيب العقبي، رحمهما الله.

    وفي افتتاحيته
    الأولى أراد ابن باديس أن يبيّن أهدافه، وغاياته، ودعوته، وأراد أن يُعرّف
    دعوته للناس، فكتب بقول: «باسم اللّه، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم
    الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحمّلها فيه، مستسهلين كل
    صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون... وها نحن نعرض على العموم
    مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها.

    نحن قومٌ مسلمون
    جزائريون، فلأننا مسلمون نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا التي تدعو إلى
    كمال إنساني، ونحرص على الأخوة والسلام بين شعوب البشر».

    واستطرد
    الإمام يقول: «إن الدين قوة عظيمة، لا يستهان بها، وإن الحكومة التي تتجاهل
    دين الشعب تسيء في سياسته، وتجلب عليه وعليها الأضرار».

    لقد صال وجال بكلماته ليضع أمام القارئ إطار فكره، ومضمون دعوته.

    وبدأ
    يخطو في ذلك خطوات هادئة ناجحة، في كل خطوة من هذه الخطوات حيطة وحذر
    وذكاء، حتى لا يقع في مواجهة مع المستعمر المتسلط قبل أن يسمعه الناس،
    ويجتمعوا حوله.

    وفي العدد الثاني الصادر في 9 يوليو 1925م، أكد من
    جديد على استقلالية الجريدة وشرح فلسفتها التي تعتمد على الوفاء للوطن
    والجرأة في بيان الحق "إننا لسنا لإنسان، ولا على إنسان، وإنما نخدم الحق
    والوطن...ونكرر القول (إن "المنتقد" لا يباع ولا يشترى". أصبحت هذه الصحيفة
    منبراً لتوجيه وتوعية الجزائريين وقناة لنقد الوضع الاستعماري المفروض على
    الجزائر وصوتاً لمناصرة القضايا الكبرى للمسلمين في فترة العشرينيات كثورة
    الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي ومساندة الشعب الليبي.

    ثم أعلن الرجل من على منبر «المنتقد» دور هذه الصحيفة قائلاً:

    «إننا
    سننتقد الحكام، والمديرين، والنواب، والقضاة، والعلماء، وكل من يتولى
    شأناً من أكبر كبير إلى أصغر صغير، من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض
    المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين».

    وقد نشرت في عددها السادس
    مقالاً للميلي تحت عنوان «العقل الجزائري في خطر»، كما نشرت في عددها
    الثامن قصيدة للعقبي تحت عنوان «إلى الدين الخالص» ومثل هذه القصيدة وذلك
    المقال يعد جراءة كبرى في ذلك العهد لتناولهما العادات المألوفة بالنقد
    والتجريح.

    ولكن فرنسا فطنت إلى خطورة هذه المقالات، وأصدرت قراراً
    بتعطيل الجريدة بعد صدور العدد الثامن عشر منها، فكان مصيرها كالعروة
    الوثقى التي أنشأها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأوقفتها السلطات
    الفرنسية والبريطانية بعد صدور العدد الثامن عشر.

    وهكذا كان لصحيفة
    المنتقد دور كبير في عرض آراء ومقترحات عبد الحميد بن باديس، ولكنه لم
    يهدأ، ولم تفتر عزيمته، وواصل طريقه من خلال الصحافة.



    الشهاب


    تعتبر
    الشهاب بحق هي جريدة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فقد جاءت بعد تجربة
    «المنتقد» بما فيها من صدام مع السلطة، أدى إلى مصادرتها، وحجب أفكاره عن
    الناس.

    أصدر الإمام عبد الحميد بن باديس أوّل عدد منها في عام 1925 م
    ، كجريدة أسبوعية ثم حوّلها إلى مجلة شهرية سنة 1929 م تحتوي افتتاحية،
    ومقالات، وفتاوى، وقصصاً، وأخباراً، وطرائف، وتراجم، وعرضاً للكتب، والصحف
    العربية، والأجنبية، وتنشر مقالات للكتاب والشعراء العرب من مصر ولبنان
    وتونس والمغرب. في السنوات الأولى، كتب ابن باديس معظم المقالات وقام
    بتصميمها وكان يوزعها بنفسه، وكان مثله كمثل أبي الأعلى المودودي صاحب مجلة
    ترجمان القرآن في بداية مشواره الدعوي.

    لقد صدرت الشهاب برؤية
    جديدة تتسم بعدم الصدام مع السلطة، والصبغة الدينية الغالبة في موضوعاتها،
    فقام الشيخ بشرح التفسير والأحاديث على صفحاتها، مع ربط المسائل الدينية
    بالواقع الجزائري، فراح يهاجم الدجاجلة فيقول على صفحاتها:

    «أحذر من دجال يتاجر بالطلاسم، ويتخذ آيات القران وأسماء الرحمن هزواً يستعملها في التمويه والتضليل».

    وحث ابن باديس الجزائريين على الوحدة، من خلال كتابه الذي توجه بها مباشرة لأبناء شعبه فراح يقول:

    «كن أخاً إنسانياً لكل جنس، وخصوصاً ابن جلدتك المتجنّس جنسية أخرى، فهو أخوك في الدم الأصلي».

    من خلال هذه الإسقاطات استطاع أن يجعل أعداد الشهاب تتواصل دون توقف طوال حياته منذ بدء صدروها عام (1925) إلى وفاته عام (1940م).

    كان
    يقول للجزائريين، ويخاطبهم بهذا الأسلوب، فتتحوّل كلماته إلى أنغام ثورية
    تشحذ النفوس، وتقوي العزائم، وقد حاولوا اغتياله بسبب ذلك في عام (1927م).

    ومن كلماته المباشرة لشعب الجزائر التي اتخذت على اعتبار أنها وصايا ضرورية:

    1- كن صادقاً في معاملاتك بقولك وفعلك.

    2- كن عصرياً في فكرك وعملك وتجارتك، وفي صناعتك وفي فلاحتك، وفي تمدّنك ورقيك.

    3- أحذر من الخيانة... الخيانة المادية في النفوس والأغراض والأموال، والخيانة الأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.

    ونلاحظ
    الخلفية الدينية الكاملة في هذه الوصايا، فالإخلاص في العمل دعوة سمعناها
    من السلف الصالح، والأمانة على النفس والعرض والمال، والذمة والشرف
    والضمير... كل هذه من وحي أصول دينية ثابتة بنصوص يشرحها ويفسرها كل يوم
    الإمام الشيخ في المسجد، وفي صحيفة الشهاب.

    و من خلال استقراء موادّ
    مجلة " الشهاب " ، نستطيع أن نحدّد أهمّ الأساليب الإصلاحية التي سارت
    عليها المجلة ، و أن نحصرها في محوريْن اثنين ، هما :

    1 – تصحيح عقائد الناس و أعمالهم .

    2 – الاهتمام بالتعليم .

    فهاتان
    القضيتان كانتا أهم الملامح التي تشكّل سمة الخطاب الإسلامي في هذه المجلة
    الرائدة ، فعلى صعيد إصلاح عقائد الناس وأعمالهم أفصح الشيخ عن المنهج
    الذي تبنّاه فيها ، إذ يقول : " قمنا بالدعوة إلى ما كان عليه السلف الصالح
    من التمسك بالقرآن الشريف و الصحيح من السنة الشريفة و قد عرف القائمون
    بتلك الدعوة ما يلاقونه من مصاعب و قحم في طريقهم من وضع الذين شبّوا على
    ما وجدوا عليه آباءهم من خلق التساهل في الزيادات والذيول التي ألصقها
    بالدين المغرضون أو أعداء الإسلام الألداء و الغافلون من أبناء الإسلام ".

    أما
    على صعيد التعليم ، فقد كان يرى فيه أمضى سلاح لمقاومة المعتدي و طرده من
    أرض الجزائر ، لذلك اهتمّ به اهتماما عظيماً و أولاه كل عنايته و وقته و
    مَـلَـكاته ، حتى وصفه الأستاذ أنور الجندي رحمه الله بقوله : " وهو الذي
    ينشئ المدارس و المعاهد في طول البلاد و عرضها ثم هو الذي يمضي يومه كاملاً
    في حلقة الدرس يفتتح الدروس بعد صلاة الصبح حتى ساعة الزوال بعد الظهيرة ،
    و من بعد المغرب إلى صلاة العشاء .

    و إذا خرج من المعهد ذهب رأساً
    إلى إدارة جريدته " الشهاب " يكتب و يراسل " البصائر " ويجيب على الرسائل
    فيقضي موهناً من الليل ، حتى إذا نودي لصلاة الصبح كان في الصف الأول ".

    فقد
    اتّخذ الشيخ ابن باديس رحمه الله في مقالاته في المجلة أسلوباً تربويّاً
    تعليمياً يربط المسلمين بكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلّم ، و
    يوثّق صِـلاتهم بها ؛ فقام بتفسير القرآن الكريم ، وشرح السنة النبوية
    شرحاً علمياً منهجياً في سلسلة اسمها " مجالس التذكير من كلام الحكيم
    الخبير "، تناول فيها أيضا الكثير من القضايا المعاصرة التي طُرحت في
    الساحة الفكرية كإحدى تبعات الهزيمة الفكرية للمسلمين، وانقلاب الكثير من
    المفاهيم واختلالها في العالم الإسلامي المُستضعف، مثل مفهوم : " الحضارة
    "، فقد تناوله في معـرض تفسير قوله تعالى ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد
    الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ( الأنبياء 15 ) ، فقال الشيخ : "
    رأى بعض الناس أن المدنية الغربية المسيطرة اليوم على الأرض ، و هي مدنية
    مادية في نهجها و غايتها و نتائجها . فالقوة عندها فوق الحق و العدل و
    الرحمة و الإحسان ، فقالوا إن رجال هذه المدنية هم الصالحون الذين وعدهم
    الله بإرث الأرض و زعموا أن المراد بـ " الصالحون " في الآية الصالحون
    لعمارة الأرض ، فيا لله للقرآن والإنسان من هذا التحريف السخيف كأن عمارة
    الأرض هي كل شيء و لو ضلت العقائد وفسدت الأخلاق واعوجت الأعمال وساءت
    الأحوال و عذبت و الإنسانية بالأزمات الخانقة وروّعت بالفتن و الحروب
    المخرّبة الجارفة، و هدّدت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها و
    المدنية من أساسها " .

    واهتمامات مجلة الشهاب قضايا الأمة
    الإسلامية، فبالرغم مما كانت تتعرّض له الجزائر المسلمة من محن وتحديات
    عصيبة ، كان بالإمكان أن تفرض على أهلها طوقاً من العزلة والإنكفاء على
    الذات و الانشغال عن قضايا المسلمين خارج البلاد ، غير أن هذا لم يحصل مع
    الشيخ ابن باديس الذي كان يمدّ ناظريه خارج حدود بلاده متابعاً و راصداً
    الكثير من القضايا التي تمسّ الأمة الإسلامية، و منها قضية فلسطين
    وتطوّراتها، وقد كانت هذه القضية من أهم القضايا التي تطرّق إليها و
    تناولها بالنقاش و التحليل، يقول رحمه الله في مجلة " الشهاب " : " تزاوج
    الاستعمار الإنكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة فأنتجا لقسم كبير من اليهود
    الطمع الأعمى الذي أنساهم كل ذلك الجميل و قذف بهم على فلسطين الآمنة
    والرحاب المقدسة فأحالوها جحيما لا يُطاق و جرحوا قلب الإسلام و العرب
    جرحاً لا يندمل " .

    كانت لهذه لمجلة الشهاب شهرة واسعة في العالم
    الإسلامي، وشهد بفضلها كبار العلماء والمصلحين. كتب الإمام حسن البنا في
    افتتاحية العدد الأول من مجلة الشهاب التي أسسها في القاهرة في نهاية
    الأربعينيات كلمة تقدير وجهها للإمام عبد الحميد بن باديس ومجلته الشهاب
    "قامت مجلة الشهاب الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس
    رحمه الله في الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدي القرآن
    الكريم وسنة النبي العظيم سيدنا محمد ص. وإنا لنرجو أن تقفو "الشهاب"
    المصرية الناشئة أثرها وتجدد شبابها، وتعيد في الناس سيرتها في خدمة دعوة
    القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له
    كفاء". وكتب أيضاً في السياق نفسه المفكر السوري الدكتور محمد المبارك في
    مجلة المجمع العلمي الدمشقية أنه كان يطالع في شبابه في الثلاثينيات مجلة
    الشهاب الجزائرية التي تصل إلى دمشق مع مجموعة من أصدقائه الطلبة "بلهفة
    شديدة". وعن تأثيرها في المغرب، يقول الشيخ محمد غازي أحد علماء فاس "مجلة
    الشهاب الغراء (...) خدمت الإسلام والمسلمين عموماً والإصلاح والمصلحين
    خصوصاً، تلك الجريدة التي كان الشمال الإفريقي متعطشاً لمثلها منذ زمان.

    و
    هكذا ، كانت مجلة " الشهاب " في مسيرتها المباركة مشعل نور، ونبراس هداية
    يضيء للجزائريين الطريق ليتلمّسوا نحو الخلاص، في تلك الظلمات الحالكة
    والظروف العصيبة التي مرت بها تلك البلاد المسلمة. إلا أن الشيخ بسبب هذا
    التأثير الإعلامي القوي و الفاعل لهذه المجلة، واجه الكثير من المصاعب
    والعقبات التي وقفت في سبيله، حيث توقفت المجلة غداة اندلاع الحرب العالمية
    الثانية في شهر سبتمبر من عام 1939 م، على يد السلطات الفرنسية، وعبر
    مساره الإعلامي شارك ابن باديس في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية
    العلماء المسلمين الجزائريين لما تكونت في 5 ماي من عام 1931 م، حيث أصدرت
    أربعة جرائد هي "السنة النبوية المحمدية" التي صدر عددها الأول في 3 أفريل
    1933 م ، و"الشريعة المحمدية" صدرت بعد توقيف جريدة السنة في أعدادها
    السبعة سنة 1933 وتوقفت 28 أوت 1933 م، و"الصراط السوى" صدرت في سبعة عشر
    عدد ما بين 11 سبتمبر 1933م إلى غاية 08 جانفي 1934م، وكل هذه الجرائد لم
    تعمر طويلا؛ فقد أوقفتها الإدارة الفرنسية، ثم"البصائر" في سلسلتها الأولى
    (1935-1939 م) وهي الجريدة الوحيدة التي بقية بعد وفاة الشيخ ابن باديس حيث
    استمرت في الصدور من عام 1947 م إلى غاية 1956 م واحتدام الثورة التحريرية
    حيث تم توقيفها من طرف المشرفين عليها حسب ما أعلن عليه المرحوم الشيخ علي
    مغربي وليس طرف إدارة الاحتلال.


    هذه الجرائد كانت لسان حال
    جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس
    باعتباره رئيسا للجمعية يكتب فيها كلها، وهو غالبا ما يكتب الافتتاحية،
    التي تتولى الدفاع عن الشخصية الجزائرية، أو الدفاع عن التعليم العربي
    الإسلامي، أو الرد على بعض المنحرفين من الجزائريين أو من أهل الطرق
    الصوفية...

    توفّي الشيخ عام 1940 م بعد حياة حافلة بالعطاء
    والجهاد والدعوة مخلّفاً وراءه ذكراً عاطراً و ثناءً وافرً بفرض نفسه على
    عالم الصحافة في فترة العشرينيات والثلاثينيات وصار رائداً من رواد الصحافة
    العربية الحديثة وأرسى "دعائمها على أسس متينة من الإيمان بالمبدأ
    والوطنية والتقاليد الصحافية العالية".

    الصحافة وسيلة تربية وتعليم

    كانت
    الصحافة الإصلاحية في زمن ابن باديس في طليعة وسائل التربية والتعليم، فقد
    ساهمت في نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وتبصير العقول، يقول ابن باديس:
    (وسيكون هذا الباب من المجلة مجالاً لفنون من التذكير، جعلنا الله
    والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وأخرى).

    ويوضّح أنواع ذلك
    التذكير، فيقول: (ننشر في هذا الباب من مجلة (الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول
    أو تهذيب للنفوس، من تفسير آية كريمة أو حديث شريف، أو توضيح لمسألة في
    أصول العقائد أو أصول الأعمال، معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يُرتاب
    في رسوخ علمهم وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم، في نمط
    وسط بين الاستقصاء والتقصير). فكانت الصحـافة من أمضى الأسلحة التي حاربت
    بها الحركة الإصلاحيـة خصومها، ونشرت بها أفكارها وتعاليمه

    صور لجريدة الشهاب





    الإمام عبد الحميد بن باديس Chihab10

    الإمام عبد الحميد بن باديس Chihab11

    الجرائد الاخرى



    الإمام عبد الحميد بن باديس Basair10




    الإمام عبد الحميد بن باديس Charia10

    الإمام عبد الحميد بن باديس Sounam10

    الإمام عبد الحميد بن باديس Sirate10

    منقول

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 17, 2024 8:23 am